هل يجوز قتل المرتد

دراسة تحليليّة موثَّقة تثبت بُطلان الزَّعم القائل بمشروعيَّة قتل المُرتد في الإسلام.

( فطوَّعت لهُ نفسهُ قتلَ أخيه فقتَلَهُ فأصبحَ منَ النَّادمين ) قرآن كريم

هل لعنة قابيل كانت بداية تاريخنا، إنَّها قصَّة جريمة ملطَّخة بالدَّم والقتل والتَّعذيب في كلّ حدث فيها.

إنَّ الكثير منَ الدماء قد سُفكت على مدى التّاريخ، إلى حد أنَّهُ كانَ بالإمكان صبغ العالم كلّه ُ بلون الدّم المسفوك، كانَ هابيل أوّل من قُتلَ من قبل أخيه دةنَ مبرر.

ولقد حفظَ القرآن الكريم والكتاب المقدَّس قصّةَ تلكَ الجريمة البشعةكدرس لنا جميعاً، وستظلّ منذراً للبشريَّة حتى انقضاء الزمان.

يتَّضح لنا تماماً إذا ما تتبعنا الأحداث التاريخيّة أنَّ الإنسان مخلوق عدواني، وأنَّ الحضارة حتى الآن لم تستطع أن تحدَّ من خطر عدوانيّتهِ وتلطّفها.

وإنَّ الإنسان اليوم لا يزالُ وحشيّاً قاسياً في عدوانيّتهِ تماماً كما كانَ منذُ آلاف السنين.

إنَّ تاريخ قسوة وتحجُّر قلبهِ وعدم رحمتهِ وطغيانهِ وعدوانيتهِ طويلٌ ومؤلم، وإنَّ نارَ عدوانيَّتهِ البشريّة لم تخمد حتى بعدَ آلاف السّنين منَ القسوة والتوحّش، إنَّ قتلَ واغتيال الأفراد، ومحق وإبادة مجموعات كاملة منَ النَّاس والشّعوب هيَ المواضيع المتكررة للتاريخ، فلقد هاجمت دول دولاً أُخرى، وقامت بلدان بمحاربة جيرانها وشنَّت حروباً على أمم بعيدة عن حدودها. قبائل وجماعات من البدو قهرت أمماً ذات حضارات قديمة وعريقة، وكذلكَ أراقَ قيصر و الاسكندر دماءَ الشّعوب المغلوبة، وحطَّمَ هولاكو وجنكيز خان بغداد وخضَّبوها بالدّماء، وصبغَ الدم البشري كل قطعة منَ الأرض.

كانَ الدم أحياناً يُسفكُ باسم الشّرف، وأحياناً أُخرى يُسفكُ باسمِ الانتقام لأجلِ أخطاء مزعومة ومُفترضة، وفي بعض الأحيان كانت القبائل والجماعات الغاضبة تجتاحُ البلدان المُسالمة بحثاً عن الطّعام، وأحياناً بحثاً عن المُلك أو بحثاً عن السُّلطان، ولكن في معظم الأحيان كانَ دم الإنسان المخلوق على صورة الله يُسفكُ باسم خالقِهِ!!

كانَ الدينُ يستعملُ كذريعةٍ للقتلِ الجّماعي. إنَّ النّظَر إلى هذا الجَّانب منَ الطبيعة البشريَّة يجعلُ المرء يتساءل فيما إذا كانَ الجنس البشري هوَ أحطُّ وأقسى المخلوقات على الأرض.

إنَّ المرء يتوقّعُ منَ الدّين أنْ يُعلّمَ الإنسان كيفَ يكونُ متحضّراً ومتمدّناً، ومعَ ذلك فإننا نجدُ أنَّ أتباعَ الدين يجعلونَ الدّينَ يقطرُ بالدّماء.

إنَّ تاريخَ الدين في أيّ جزء منَ العالم وفي أي زمان قد جعلهُ أتباعه تاريخ التَّعذيب والاضطهاد والإعدام والصَّلب.

وإنّهُ لممَّا يخيّبُ الآمال أن ترى الدّينَ الذي يُفترضُ أن يكونَ ملاذاً وملجأً للسّلام في عالم الحرب والصّراع يصيرُ سبباً للدمار وسفكِ الدّماء، إنَّ الدّينَ في حدّ ذاتهِ لا يُمكنُ مُطلقاً أن يكونَ سبباً للقتل الجماعي بأيّ شكلٍ منَ الأشكال كان، وإنَّ منَ الخطأ الفادح أن يُظنَّ بهِ ذلك.

إنَّ الدّينَ لم ينزل منَ الله تعالى ليُشجّعَ البشر على القتل وسفك الدّماء.

وعندما يكتشفُ المرء بإحساسٍ ممتزجٍ بالدّهشة والرّضا أنَّ الله عزَّ وجل لم يُنزّل الدّينَ على البشر لهذهِ الغاية، فإنَّهُ يرى شًعاعاً منَ الأمل يُفرحُ قلبهُ.

إنَّ خليفةَ الله في الأرض الذي أثارَ خَلقُهُ استفسارَ وتساؤل الملائكة قد كانَ حقاً مُصلحاً عظيماً، إنَّ الدّينَ الذي نشرهُ ووعظَ بهِ وعلَّمهُ كانَ اسمهُ ” دين السلام” .

ولكن يبقى السّؤال: لماذا يبدو للوهلة الأولى أنَّ التَّاريخ يُعطي انطباعاً أنّ الدين يُقرُّ الجريمةَ وسفكَ الدّماء باسم الإسلام!!؟

إنَّ القرآن الكريم يبيّنُ بكلّ وضوح لماذا يمكنُ للنظرةِ السّطحيّة الخاطفة إلى التَّاريخ أن تقودَ المرء إلى مثلِ هذا الاستنتاج الخاطىء، إنّهُ يُقدّمُ الأحداثَ الماضيةَ منَ التَّاريخ ليُري أنّ أولئكَ الذينَ نشروا القسوة والوحشيَّة وطبَّقوها كشرعٍ دائم لهم باسمِ الدّين سواء في الماضي أو الحاضر إنّما كانوا ولا يزالونَ إمّا أعداءً للدين وللمؤمنين أو أنَّهم أُناسٌ قد فسدَ اعتقادُهُم وشرعهم، وهنالكَ أيضاً الزّعماء الدينيون الذينَ لا يملكونَ في قلوبهم دفئاً ولا تعاطفاً ولا رحمةً ولا تقوى، ولا نُجانبُ الأمانةَ والصّدقَ حينَ نقول إنَّهم منافقونَ وأنَّ قلوبهم تملؤها شهوة القوة والسُلطان، وأنّ الوحشيّةَ هيَ الهوى المحموم الذي يقودهم ويُحرّكُ أفعالهم.

ألا إنَّهُ لخطأٌ بالغٌ أن يُربطَ الدّينُ بجرائم أمثال هؤلاء المجرمين منَ النّاس ، والحقيقة هيَ أنَّ الله تعالى الذي هوَ نبعُ الرّحمةِ التي وسعت كلَّ شيء، لا يُمكنُ أن يسمحَ لأتباعِ أيّ دينٍ بأن يضطهدوا خلقهُ بأيّ شكلٍ كان.

القرآن يروي أحداثاً تاريخيةً عن الاضطهاد باسم الدين:

يقتبسُ القرآن الكريم الكثيرَ منَ الأمثلة منَ التَّاريخ البشري ليُبرهنَ على حقيقة الاضطهاد باسم الدّين، ويقدّم القرآن الكريم الجزء المبكّر من حياة الرّسُل كمعيارٍ للاصلاح والوعظ الديني، ولو أنَّ استعمال القوة الماديَّة كانَ مسموحاً بهِ من قبلِ الله عزَّ وجل، لكانَ مؤسسو هذهِ الأديان قد سمحوا بهِ لأتباعهم.

ولكننا نجدُ بكلّ وضوحٍ أنَّ استعمال القوَّة كانَ محرّماً تحريماً أكيداً.

إنّ أولئكَ الأتباع الذينَ جاؤوا بعدَ الرّسل بزمانٍ طويل وأرادوا أن يعلّموا الدّينَ يالقوَّة والاضطهاد وأن ينشروهُ بالإكراه، فهم إمّا قد ورثوا عقيدةً قد فسدت معَ الزمان أو أنّهم هُم أنفسهم كانوا قد فسدوا.

إنّهم استخدموا القوّةَ باسم الدّين ومعَ ذلكَ فقد كانَ دينهم يُحرّمُ استعمالَ القوّةِ لنشرِ الدّين.

إنَّ التّاريخ الديني في القرآن الكريم مليءٌ بالأمثلة على استخدام القوّة والعُنف باسم الله من قِبلِ أولئكَ الذينَ ليسَ لديهم حتى أدنى درجةٍ من علم عن الله.

إنَّ نوحاً عليهِ السَّلام الذي دعا النّاسَ إلى التّقوى والورع، لم يكن مضطهداً وإنَّ أولئكَ الذينَ أرادوا أن يكتموا صوتهُ كانوا خاطئين وهم عندَ سماعهم لرسالة نوح عليه السلام قالوا:

( لئن لم تنتهِ يا نوحُ لتكوننَّ منَ المرجومين ) الشورى 117

إنَّ تاريخ الاضطهاد الديني كما جاءَ في القرآن الكريم بكلّ وضوح يبيّنُ أنَّ أتباعَ الدّين الحق إنّما هم أنفسهم ضحايا العُنف.

ويُقدّمُ القرآن الكريم إبراهيم عليه السلام مثالاً حيثُ دعا قومهُ إلى الله تعالى بالحبّ والتّواضع والتّعاطف؛ لم يكن لديهِ سيف …… ولا حتى قطعةَ سلاح واحدة، ولكنّ كبار قومهِ فعلوا تماماً ما كانَ قد فعلهُ خُصوم وأعداء الدّين من قومِ نوح عليهِ السَّلام، قالَ آزر أبو إبراهيم عليه السلام: ( لئن لم تنتهِ لأرجمنَّكَ ) مريم 47

والأمثلة على اضطهاد الأنبياء وأتباع الحق من قبل قومهم كثيرة في القرآن:

فالذينَ اضطهدوا النبي شُعيب عليهِ السّلام فعلوا الشَّيءَ نفسهُ وقالوا لهُ: ( لنُخرجنَّكَ يا شُعيبُ والذينَ آمنوا معكَ من قريتنا أو لتعودُنَّ في ملَّتنا ) الأعراف 89

من خلال تقديم هذه الأمثلة يبرهن لنا القرآن الكريم أنَّهُ يوجدُ هنالكَ نموذج من التحوُّل إلى الدّين الصّحيح وكذلكَ اللجوء إلى القوة والاضطهاد من قِبل أعداء الحق ضدَّ هذا التحوُّل.

إنَّ النبي شعيباً عليه السلام أجابَ على تهديدات أعدائهِ بردّ يُعتبرُ نموذجاً لردّ جميع أنبياء الله تعالى في مواقفهم من مضطهديهم، قال: ( أولو كُنّا كارهين ) ؟ الأعراف 89

هل يمكن تغيير القلوب بالقوّة؟ وهل منَ الممكن جعل الإنسان يرتد إلى دين كانَ قد تحوَّلَ عنهُ بعدَ اكتشاف أنّهُ كانَ ديناً زائفاً؟ وهل يمكن جعلهُ يرتد عن دين اكتشفَ حقيقة صدقهِ فصدَّقهُ وآمنَ بهِ؟

إنَّ مستبدَّاً واحداً لم يستطع أن ينجو من هذا المنطق الحق، إنَّ الحقيقة التَّاريخيَّة تؤكّدُ بكلّ وضوح أنَّ السَّيفَ لم يستطع مُطلقاً أن يحكمَ وأنَّهُ لن يحكمَ أبداً قلوبَ النَّاس؛ وإذا ما أمكنَ إخضاع الجّسد البشري بالقوّة فإنَّ الرّوح البشريَّة لا يُمكنُ إخضاعها بالقوّة مُطلقاً.

إنَّ الإيمان مسألة قلبيَّة، وهذهِ هيَ الطَّبيعة الإنسانيّة التي لا تتغيَّر، وإنَّ الذينَ حُكِمَ عليهم بالموت باسمِ الدّين من قِبل أولئكَ الذينَ لا يفهمونَ الدّين سوفَ يظلُّون يرفعونَ أصواتهم ضدَّ هذا الظُّلم، وسيظلونَ دائماً يسألون هذا السُّؤال الصَّارخ: ( أتريدوننا أن نبقى على مُعتقدات رفَضَتها عقولنا وأفهامنا)؟؟

وكُلَّما طُرحَ هذا السُّؤال نجدُ أنَّ أعداءَ الدّين عبرَ العالم كانوا يتَّهمونَ الأنبياء بأنّهم صابئون ومرتدّون ويحكمونَ عليهم بالموت.

وكانَ المؤمنون يعانونَ من أساليب لا إنسانيَّة في العِقاب والتَّعذيب …… ألا إنَّ قصّةَ العُنف هذهِ لا نهايةَ لها.

ولقد لاقى سيّدنا موسى عليهِ السَّلام وأتباعهُ نفس العذاب على يد ما يسمّى بالزّعماء الدينيين في زمانهِ _ فرعون وهامان وقارون _ قالوا: ( اقتلوا أبناءَ الذينَ آمنوا معهُ واستحييوا نساءهم ) غافر 26

إنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لم يُعاقِبوا أحداً على الارتداد من دينٍ لآخر، ومعَ ذلكَ فإنّهم وأتباعهم قد عوقِبوا وعُذّبوا بسبب ما يُسمَّى بالارتداد.

وبعدَ موسى عليهِ السَّلام عانى عيسى بن مريم عليه السَّلام عذاباً وعُنفاً كما عانى موسى من قبله، ولقد أُنهيت هذه المعاناة بمحاولة قتلهِ على الصَّليب.

كانَ العُنف وسفك الدّماء دائماً يُنفَّذُ باسم الدّين، وكانَ الضحايا دائماً على مدى الزَّمان هُم المتَّهمون بالارتداد، ومعَ ذلكَ فإننا لا نجدُ كتاباً سماويَّاً واحداً يُصادقُ على عقوبة أولئكَ الذينَ تحوَّلوا م ندين إلى آخر.

وإذا ما كانَ قد تمَّ تحريف نصوص الكُتُب السَّماويَّة مِن قِبَلِ المفترين على الله كذباً، فإنَّ المرء لا يُمكنُهُ أن ينتقد هذه الكتُب نفسها، إنَّ من طبيعة الكُتُب التي أوحى اللهُ بها إلى أنبيائهِ عليهم السَّلام أنَّها لا يُمكنُ أن تُعلّمَ العُنفَ أو تُقرَّهُ.

إنَّ القرآن الكريم من خلال طرحهِ للتَّاريخ الديني يُبرهِنُ بكلّ وضوح على أنَّ الأنبياء وأتباعهم كانوا ضحايا للعُنف وهم بالرّغمِ من ذلكَ كانوا الضَّحايا الذينَ قابلوا الوحشيَّة بالصَّبر.

إنَّ المرءَ لا يستطيعُ أن يصدّقَ أنَّ الذينَ يتحوَّلونَ عن معتقداتهم إلى دينٍ آخر يمكنُ أن يعذَّبوا باسمِ الدّين، وأنَّ أنبياءَ الله جميعاً الذينَ أرسلهم الله تعالى لكي يحوّلوا النَّاسَ عن المُعتقدات الفاسدة، لا يمكنهم أيضاً أن يقبلوا هذا الاضطهاد باسم الدّين، لأنَّ هذا يجعلُ مهمَّتهم الأساسيّة لا معنى لها.

ويُرينا القرآن الكريم أنَّ الأنبياء وأتباعهم لا يُعاقَبونَ على الارتداد فقط أثناءَ حياة النّبي وإنّما يُعاقبونَ أيضاً بعدَ مئات السّنين من موت النبي، إنَّ مثل هذا الاضطهاد ليسَ لهُ مصداقيَّة عندَ الله تعالى.

إنّ هول الأعمال الوحشيّة ضدّ من يُسمّونَ بالمرتدين ازدادَ سوءاً بسبب من يَعتبرونَ أنفسهم حماةَ الدين الذينَ هم في حقيقة الأمر يمنعونَ عبادَ الله من عبادة الله، وإنَّ هؤلاء العباد يشعرونَ بأشدّ الألم والعذاب بسبب منعهم من عبادة الله أكثر ممّا يؤلمهم التَّعذيب نفسه

قالَ الله في كتابه العزيز: (( ومن أظلم ممن منعَ مساجدَ الله أن يُذكرَ فيها اسمه وسعى في خرابها)) البقرة 115

وهكذا نجدُ أنَّ القرآن الكريم يرفض رفضاً قاطعاً استعمالَ القوَّة بغيةَ اضطهاد الحريّة الدينيَّة، كما ويُعلنُ أنَّهُ بالرُّغم من أنَّ هذا الاضطهاد يقعُ في حقّ المؤمنين إلاَّ أنَّ المُؤمنينَ الصَّادقين أبداً لا يستخدمونَ القوّةَ من أجل التَّبشير والدَّعوة إلى الله.

لقد سفكَ باسم الدين الكثير منَ الدّماء ومازالب يُسفكُ إلى يومنا هذا ، وكان المسلمونَ حينَ يتعرَّضونَ للتعذيب من قِبل مشركي مكة يقولونَ: (( ربنا الله)),

وإنَّ هذا التّعذيب وهذا الاضطهاد قد كانا باسم الدّين حيثُ أنَّ مشركو مكّة كانوا يعتبرونَ المسلمينَ المؤمنين كُفَّاراً مرتدّين.

كانَ مشركو مكَّة يدعونَ محمّداً صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه: ( الصَّائبين ) أي الذينَ تركوا دينَ أجدادهم واعتنقوا ديناً آخراً جديداً.

ولكي يقمعوا هذا (( الشَّر )) فإنَّ المكّيين تبنّوا أساليبَ التَّعذيب والاضطهاد تماماً كما كانَ قد فعلَ أسلافهم منَ الديانات الأخرى السَّابقة للدّين الإسلاميز

وإنَّ محمّداً عليه الصلاة والسّلام وأتباعهُ قد عانوا هذا الاضطهاد وهذا التَّعذيب بصبر وثبات وذلكَ لكي يُبرهنوا أنَّ الشَّرَّ مُتسبّب من قبل أعداء الدّين أنفسهم وليسَ من قِبل أتباع الحقّ والحقيقة.

إنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسَّلام قد أرى مضطهديهِ حُبَّاً لا يفوقهُ حب، وقابلَ شرَّهم بالرَّحمة والعفو.

وعندما جاء نصرُ الله وفتحَ الله مكّة لرسوله الكريم وخضعَ لهُ مُشركو مكَّة، أمرَ الرَّسول عليه الصلاة والسَّلام بالأمن والسَّلام لكل النَّاس.

كانَ هنالكَ نصرٌ وفتحٌ ولكن لم يكن هناكَ سفك دم أو عِقاب لمن اضطهدَ الرَّسولَ وأصحابه من قبل وأنزل بهم أشدَّ أنواع العقاب وحشيَّةً.

وكذلكَ لم يأمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم بسجن أو إعدام أحد، وبدلاً منَ الانتقام والمعاقبة بالمثل فقد كانَ النَّاسُ في جميع أرجاء مكّة يسمعونَ النّداءَ القرآنيَّ البديع:

(( لا تثريبَ عليكم اليّوم يغفر الله لكم وهوَ أرحم الرّاحمين )) يوسف 92

في ذلكَ اليوم تمَّ العفو عن أقسى القُساة، أولئكَ الذينَ كانوا يتلذّذونَ بتعذيب العبيد الذينَ لا حولَ لهم ولا قوّة على الرّمال الحارقة، أيضاً عُفيَ عنهم.

وأيضاً الذّينَ جرُّوا المسلمين في حارات وأزقَّة مكّة كالحيوانات اليّتة عفا رسولُ الله عنهم.

وكذلكَ تمَّ العفو عن الذينَ خرقوا السَّلام وعن الذينَ رمَوا المسلمينَ العُزَّل بالحجارة، وحتى عن المرأة التي أكلت كبدَ عمّ الرّسول صلى الله عليه وسلَّم هي أيضاً عُفيَ عنها.

لو فرضنا أن التَّاريخ من عهد آدم عليه السَّلام وحتى اليوم الحاضر قد فُقدَ وضاع _ وضاعَ معهُ كل السّجل للاضطهاد وكل دستور يتعلَّق بحقوق الإنسان _ فإنَّ نظرةً واحدةً إلى حياة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلَّم تبرهن بما يفوق البرهان أنَّ الدّينَ الحق لا يُمكنُ أن يبرّرَ الحقدَ والاضطهاد والقمع والكبت للفكر الإنساني بأيّ شكل كان.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلَّم لم يحصر تعاليمهُ في الدَّعوة إلى التَّسامح الديني فقط، وبما أنَّ رسولَ الإسلام هو رحمة للعالمين:

(( وما رأرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمين )) الأنبياء 108

فإنَّ القرآن الكريم قد صرَّحَ بشكلٍ عام:

(( لا إكراهَ في الدّين )) الإكراه ليسَ ضروريّاً وذلكَ لأنَّهُ ((قد تبيَّنَ الرُّشدُ منَ الغي)) البقرة 257

وليسَ ثمَّةَ احتمال للخلط بينَ الاثنين، إنَّ هذا الإعلان يبدو في ظاهرهِ غريباً وغبر عادي، فمن ناحية نجدُ أنَّهُ كانت هنالكَ سُلطة اعتباطيّة عاكفة بحماس محموم على سحق وإبادة مجموعةٍ من النَّاس بكل الوسائل الممكنة بدعوى أنّهم مرتدُّون، ولكن عندما حصلت هذه المجموعة من المرتدين على القوَّة والسُّلطان نجدُ القرآن الكريم يُعلّمُ هؤلاء المؤمنين حكمَ الله الحق أنّهُ:

(( لا إكراه في الدّين قد تبيَّنَ الرُّشدُ منَ الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسكَ بالعروة الوثقى لا انفصامَ لها )) البقرة 257

وهنا يجب أن نلاحظ أنتَّ هذا الإعلان قد جاءَ في سورة البقرة والتي أُنزلت في السَّنتين أو الثَّلاث سنوات الأولى بعدَ وصول الرَّسول صلى الله عليه وسلَّم إلى المدينة، وهيَ المكان الذي لم يكن المسلمون فيه فقط أحراراً منَ الاضطهاد ولكن كانوا قد حصلوا أيضاً على القوّة.

وكيفَ يُمكنُ أن يكون هنالكَ إعلان للسَّلام أكثرَ إنسانيَّةً وكَرماً وهوَ يصدرُ عن نبيّ كانَ فقط لسنةٍ أو سنتين خلتا يُعاني منَ الاضطهاد الظَّالم بسبب أنَّه قد (( بدَّلَ دينه ))؟

إلاّ أنَّ الذينَ يضطهدونَ عبادَ الله باسم الدّين إنّما هم في حقيقة الأمر غايةً في الجهل بجوهر الدّين، إنَّ الدّينَ هوَ تحوُّلٌ في القلوب.

والدّين ليسَ سياسةً ولايسعى أتباعهُ إلى تشكيل أحزاب سياسيّة، كما أنَّ الدّين ليسَ وطنيَّةً ذاتَ ولاءاتٍ محدودة، وليسَ هوَ بلداً ذا حدودٍ جغرافيَّة، بل هوَ التحوُّلُ الذي يتمُّ في عُمق القلوب _ التحوُّلُ الذي يكون لخيرِ روحِ الإنسان وصالحها.

____________________________________________________________________________

المراجع: سلسلة الإسلام الذي يجهلون __ كتاب قتل المرتد الجريمة التي حرَّمها الإسلام للأستاذ الكاتب محمد منير إدلبي