قصة أهل الكهف

عندما نزلت الرسالة المسيحية على سيّدنا عيسى عليه السّلام آمنَ به العديد من النّاس، وقد تمَّ اضطهادهم لمدة ثلاثمائة سنة، وكان يتم تعذيبهم في مسارح المدرَّجات التي بُنيت من أجل المُصارعة معَ الأسود والثيران الهائجة، في هذه الأماكن كان المسيحيون يُلقَونَ إلى الحيوانات المتوحّشة الجَّائعة التي كانت تقفزُ مزمجرة على المسيحيين العُزَّل من كلِّ قوَّةٍ أو سلاح وتلتهمهم حتى قبلَ أن يحاولوا الهرب أو النجاة، وفي بعضِ الأحيان كانوا يُلقَونَ أمامَ ثيران وحشيَّة تمَّ تجويعها لأيَّام عديدة، وكانت هذهِ المخلوقات المتوحّشة تخورُ وتشخر ثمَّ وبهسيسٍ مُرعبٍ تُهاجم هؤلاء المؤمنين منَ المسيحيين المساكين الذينَ لا ذنبَ لهم إلاّ أن قالوا ربّنا الله.

كانت قلوب وصدور المسيحيين تُخرقُ بقرون الثيران الجَّائعة الهائجة، وكانت أجسادهم المرتجفة تُسحقُ تحتَ حوافرها حتّى الموت، وبعدَ انتهاء هذا المهرجان منَ الدَّم كانَ الرومانيون المقهقهون يعودونَ مُبتهجينَ إلى بيوتهم، فلقد تمَّ عِقاب من تخلَّوا عن دينهم كما يجب حسب اعتقادهم!!!

ولكن في الوقت الذي كانت أرجلُ المسيحيين ترتجف، كانت قلوبهم تنبضُ بكلّ قوّةٍ بالإيمان بالله عزَّ وجل.

واستمرّ هذا الاضطهاد الوحشي من حين إلى آخر لمدة ثلاثة قرون وعندما لم يجدوا مكاناً يختبئونَ فيهِ من بطش الرومانيين لجؤوا إلى كهوف (( الكاتاكومب)) تحتَ الأرض،

عاشوا في المتاهات التي لا تزال موجودة حتى اليوم، وهيَ تُذكَرُنا بأنَّ المسيحيين استطاعوا أن يعيشوا معَ الحشرات والعقارب والأفاعي السَّامّة، ولكنهم لم يستطيعوا العيشَ معَ القادة الدينيين بثيابهم الجميلة الفاخرة.

تفسير سورة الكهف برؤية جديدة مؤكدة تختلف عن الرؤية السطحيّة الساذجة الدَّارجة ومن مصادر موثوقة جداً بإذن الله.

بسم الله عليه توكّلنا وبهِ نستعين:

بسم الله الرحمن الرحيم (1):

الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتابَ ولم يجعل لهُ عوجا (2) قيّمًا ليُنذرَ بأسًا شديدًا من لدنه ويبشّرَ المؤمنينَ الذينَ يعملونَ الصَّالحات أنَّ لهمْ أجراً حسنا (3) ماكثينَ فيهِ أبدًا(4)

شرح الكلمات:

__ عوجا: عوجَ يعوجُّ عوجاً:ضدّ استقامَ أي انحنى والاسم العِوَج، وعوج الدّين والخُلُق: فساده.

__ قيّماً: أمرٌ قيّم: مستقيم، وقولهِ تعالى ( ديناً قيّماً ) أي مقوّماً لأمورِ معاشهم.

_ ليُنذرَ:أنذرَهُ بالأمر، أعلمَهُ وحذَّرَهُ من عواقبه قبلَ حلوله، خوَّفَهُ في إبلاغه.

_ بأساً: البأس: العذاب؛ الشِدَّة في الحرب.

_يُبشّر: بشَّرهُ: أخبرهُ ففرحَ.

_ ماكثينَ: لابثينَ ومقيمين.

__ أبدا: الأبد الدّهر، الدائم، القديم، الأزلي، والأبد: عبارة عن مدَّة الزّمان الممتد الذي لا يتجزّأ، أي زمان غير محدد.

التفسير:

المُراد من قولهِ تعالى ((قيّماً )) أنَّ هذا الكتاب جاءَ مقوّماً للكتب الماضية، حيثُ يُصلحُ الأخطاء الواردة فيها، كما يعني أنَّ هذا الكتاب سيّدٌ على النَّاسِ وسائسٌ لأمورهم، أي يقومُ بتربية الموجودين منهم واللاّحقين، حيثُ يبيّنُ لهم الأعمال التي يجبُ أن يعملوها، كما هوَ مهيمنٌ على السَّابقين أي يفصل في أمورهم، إذاً فكلمة (( قيّماً )) ليست حالاً، بل وردت صفة للكتاب لتشمل الماضي والمستقبل.

أمَّا قول الله تعالى (( ويبشّرَ المؤمنين الذينَ يعملونَ الصّالحات أنَّ لهم أجراً حسنا ))

فاعلم أنَّ (( أجراً حسنا )) لا يعني الجوائز العاديَّة، لأنَّ هذا المعنى متضمّن في كلمة ((الأجر)) وحدها؛ وقد وردت كلمة الأجر في القرآن الكريم مجرَّدة لأنَّ هذا المعنى متضمّن في كلمة الأجر وحدها، وقد وردت كلمة ( الأجر) في القرآن الكريم مجرَّدة عن ( الحَسَن ) مِرارًا، كقولهِ تعالى في هذهِ السّورة نفسها { إنَّا لانضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً } ( الآية: 31 ).

لا جَرَمَ أنَّ الأجر في مثلِ هذهِ الأماكن يعني _ نظرًا إلى سياق الكّلام _ الجّزاء الجيّد على العموم؛ ولكن قولهُ تعالى { أجراً حسنًا } يعني أكثر من ذلك، وهوَ أنَّ هذا الأجر سيأتي بالنّتائج الحسَنة، فلن يفسُدَ المؤمنون نتيجةَ هذهِ النّعم، بل سيُحسنونَ استخدامها لينالوا مزيداً منَ الثَّواب.

وقولهُ تعالى { ماكثينَ فيهِ أبدا } إذا كانَ خاصًّا بالنّعَم التي سوفَ ينالُها المؤمنون في الدّنيا، فليسَ المعنى أنَّ هذا الأجر لن ينقطعَ أبداً، بل المراد أنَّهم سينالونَ أجرهُم حتمًا ما داموا مؤمنين.

أمّا إذا كانَ خاصًّا بالنّعَم الاُخرويّة فالمعنى أنّهم سيتمتّعونَ بنعم الآخرة باستمرار دونَ أن تنقطعَ عنهم أبدًا .

ويُنذرَ الذينَ قالوا اتّخذَ اللهُ ولدا ( 5 ) ما لهم بهِ من علمٍ ولا لآبائهم كبُرَت كلمةً تخرجُ من أفواههم إن يقولونَ إلاّ كذبا ( 6 )

شرح الكلمات:

_ ولدًا: الولد: كل ما ولده شيء، ويُطلقُ على الذّكرِ والأُنثى، ( الأقرب )، وقد وردَ هنا بمعنى الولد الذَّكر.

_ كلمة: كل ما ينطقُ بهِ الإنسان مُفردًا كانَ أو مركَّبًا ( الأقرب ).

_ كذبًا: كذبَ الرَّجُلُ وكذِبًا: أخبرَ عن الشّيء بخلافِ ما هوَ معَ العِلم بهِ،

ضدّ صدقَ، وسواءٌ فيه العمد والخطأ ( الأقرب ).

سراديب الموتى في روما

التفسير:

يقولُ الله تعالى إنَّ الغاية الثَّانية لهذا الكتاب هيَ أن يُحذّرَ أولئكَ الذينَ زعموا أنَّ الله تعالى اتخذَ ولدًا.

منَ المستغرب أنَّهُ تعالى قالَ من قبل إنَّ أهدافَ الكتاب الإنذار، ثمَّ تبشير المؤمنين، ويقول الآن مرةً أُخرى إنَّ من أهدافهِ الإنذار، وأنَّ هذا الإنذار خاص بالذينَ قالوا بأنَّ الله قد اتّخذَ ولدًا.

والسُّؤال الذي يطرحُ نفسهُ هُنا: لمَ لمْ يجمع الله الإنذارين في المرّة الأولى ليذكر بعدهما البُشرى للمؤمنين؟

والجَّواب أنَّ القرآن الكريم يقصدُ بهذا التَّرتيب الإشارة إلى أزمنة مختلفة.

فالإنذار الأوَّل كانَ خاصًا بأهل مكَّة وبجميع تلكَ الشُّعوب التي كانت تناوئ الإسلام في عهد الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلَّم، وبالفعل هلكت تلكَ الأمم نتيجةَ ذلكَ الإنذار.

ثمَّ نالَ المؤمنون النّعم بعدَ هلاك مُناهضي الإسلام وِفقًا للتبشير الذي ذُكرَ بعدَ هذا الإنذار، وحكَمَ المسلمون العالم لقرون طويلة طِبقًا لوعدِ الله عزَّ وجل { ماكثينَ فيهِ أبدا }.

ثمَّ جاء الإنذار الثاني الخاص بالمسيحيين وحدهم، وكانَ فيهِ إشارة إلى أنّهُ بعدَ الازدهار الإسلامي ستقوى المسيحيّة ثانيًة، وتستولي على العالم حتى يتراءى للنّاس أنّهُ لم يبقَ في الدنيا أمّة مُعادية للإسلام سوى المسيحيّة؛ وعندها سيصبح الإنذار القُرآني موَجَّهًا إلى المسيحيّة خاصّةً.

أمّا إذا لم يفصل القرآن بينَ الإنذارين بذِكرِ بشارة المؤمنينَ بينهما لم يُمكن فهم هذهِ الإشارة اللطيفة التي تُحدّد موعد العذاب القادم والتي تُخبرُ عن التغيُّرات السياسيّة في المُستقبل.

أمّا قولهُ تعالى كذلكَ { كبرت كلمةً } فاعلم أنَّ كلمةً هنا تمييز، والتَّقدير: كبرت هيَ كلمةً، والمعنى: أنَّ قول هذا الشّيء كبير، أو بتعبير آخر: التَّفوُّه بهذا الكلام أمرٌ خطيرٌ جدًا كما أنّهُ مُخالف للعقل.

وقد أشارَ بذلكَ إلى أنَّ هذهِ العقيدة كما هيَ تمثّل إساءة كبيرة إلى الله تعالى كذلكَ هيَ مرفوضة من قبَل العقل الإنساني، إذ كيفَ يُمكنُ أنْ يُصلبَ إنسان ومعَ ذلكَ يُدعى ابنًا للهِ تعالى.

لقد وجَّهَ القرآن إلى المسيحيَّة هُنا __ بالإضافة إلى الإنذار ___ ضربةً قاضيةً حيثُ قال:

إنّهم يتًّخذونَ للهِ العظيم ابنًا من دونِ أن يملكوا هم ولا آباؤهم على ذلكَ دليلًا، بمعنى أنَّ آباء المسيحيين كانوا على علم أنّ المسيح وحوارييه وتلاميذهم كانوا موحّدين، وأنَّ الشّرك قد جاءَ فيما بعد، ومعَ ذلكَ جعلوا المسيح ابنًا لله سبحانه وتعالى؛ فجاءهم القرآن الكريم بعقيدةِ التَّوحيد الأسمى، قاضيًا على الأفكار الوثنيَّة بالبراهين الدَّامغة؛ ولكن يا أسفاهُ، لا الآباء انتفعوا بما رأوهُ بأمّ أعينهم، ولا الأولاد انتفعوا بالأدلّة التي قدَّمها القُرآن الكريم، بل تركَ كلا الفريقين ربّهم، واتخذوا الإنسانَ إلهًا دونما ب برهان أو دليل.

وأخبرَ بقولهِ { إنْ يقولونَ إلاّ كذبا } أنَّ المسيح نفسهُ كانَ مُنكِرًا لمثلِ هذهِ البُنوَّة إذ ليسَ في الأناجيل الموجودة ما يدلُّ على أنَّ المسيح ابنُ الله تعالى.

لا شكَّ أنَّهُ قد وردت في الأناجيل كلمة ” ابن” في حقّ المسيح عليهِ السَّلام، ولكن ليسَ للمسيح أيَّة خصوصيّة في ذلك، إذ وردَت هذه الكلمة في حقّ أُناسس آخرينَ أيضاً، فجاءَ على سبيلِ المِثال: ” يقول الربُّ إسرائيل ابني البِكر ” ( خروج 4: 22 ).

وردَت رواية الفتية الذينَ هربوا من بطش الرومان واختبؤوا وتناقلها النّاس عبر القرون، وتلكَ الرواية بعيدة كلّ البعد عن المنطق إذ أينَ يكمُنُ الإعجاز إذا كان عدد منَ الفتية هربوا من بطش الرّومان الذينَ كانوا يقتلونَ المسيحيين ويكفّروهم، وكانَ معَ هؤلاء الفتية كلب وعندما أوَوا إلى الكَّهف ناموا ثلاثمائة سنة وكلبهم يجلس بباب الكهف لحمايتهم………..

تفسير قصة أصحاب الكهف:

قالَ تعالى:

أم حسبتَ أنَّ أصحابَ الكّهفِ والرّقيمِ كانوا من آياتنا عجباً ( 10 )

شرح الكلمات:

__ الكّهف: كالبيت المنقور في الجّبَل، وجمعُهُ كهوف، إلاّ أنّهُ واسعٌ، فإذا صَغُرَ فهوَ غار.

الكَهف أيضاً الوَزَرُ، الملجأ ( الأقرب ).

___ الرَّقيم: رقَمَ يرقُمُ رَقماً: كتَبَ. ورَقَمَ الكتابَ: أعجمَهُ وبيّنه. ورقَمَ الثّوب: خطّطهُ وأعلمهُ. والرّقيم الكِتابُ ( الأقرب ).

فأصحاب الرّقيم هم القوم الذينَ كانوا يكتبونَ ويرسمون، وقد قالَ بعضُ المُفسّرين: همُ الذينَ كانوا يحفرونَ في الحَجَرِ والحديد ( الطّبري، وأقرب الموارد ).

وعليهِ فالمُرادُ من أصحاب الرّقيم قومٌ كانوا يكتبونَ على الأحجار والورَق أو يرسمونَ عليها وبصوّرون.

وبما أنَّ الرّقيم يعني الشّيء المرقوم أيضاً فيعني أصحابَ الرّقيم قومٌ كانت عندهُم أشياء مرقومة أي الكُتُب واللّوحات وما إلى ذلك ممّا يُكتَبُ عليه.

__ عجباً: العجب: إنكار ما يردُ عليك؛ استطرافُ الشّيء، رَوعةٌ تعتري الإنسان عندَ استعظامِ الشّيء ( الأقرب ).

التّفسير: إنّهُ لمنَ المُضحك المُبكي أنَّ اللهَ تعالى يصرّحُ هُنا أنَّ أصحابَ الكّهف ليسوا منَ العجائب، بل كانوا آيةً كغيرِها منْ آيات الله سبحانهُ وتعالى، ولكنَّ المُسلمينَ يقدّمونهم كأُعجوبةمنَ العّجائب.

إذ أوى الفتيةُ إلى الكَّهفِ فقالوا ربَّنا آتِنا من لدُنكَ رحمةً وهيّئ لنا من أمرِنا رشدا ( 11 )

شرح الكلمات:

_ أوى: أوى إلى منزله وأوى منزلهُ: نزلَ بهِ ليلاً أو نهاراً ( الأقرب ).

_ الفتية: جمع فتى وهوَ الشَّاب الحَدَث؛ السخيُّ الكريم ( الأقرب ).

_ رحمةً: الرَّحمة رقّة القلب، وانعِطافٌ يقتضي التّفضُّل والإحسان والمغفرة ( الأقرب ).

التّفسير:

اعلم أنَّ الرُّشدَ هوَ الهداية، ولكن الرُّشدَ يُقالُ في الأُمور الدُّنيويَّةوالأُخرويَّة، بينما الرَّشَد يُقالُ في الأُمور الأخرويَّة لا غير ( الأقرب )، وعليهِ فدُعاؤهم هذا يعني: اللهمَّ افتح لنا طريقَ الخُّروج منْ محنتنا وباب الفلاح في أمرنا.

فضرَبنا على آذانهم في الكَّهفِ سنينَ عددا ( 12 )

شرح الكلمات:

فضربنا على آذانهم: ضرَبَ على أُذنهِ: منعَهُ أن يسمعَ ( الأقرب ).

التَّفسير:

يقولُ الله تعالى: منعناهم من سماع أخبار النَّاس بإبقائهم في الكَّهف لسنين، فلم يعرِفوا حالَ أهلِ زمانهم.

ثمَّ بعثناهم: بعثَهُ بعثاً: أرسَلَهُ؛ أثارَهُ وهيَّجهُ.

بعثَ الموتى: أحياهُم، بعثَهُ على الشَّيء حمَلَهُ على فعلِه ( الأقرب ).

_ الحزبين: مثنَّى الحزب وهوَ الطَّائفة؛ جماعة النّاس، جُندُ الرَّجلِ وأصحابه الذينَ على رأيهِ؛ النَّصيبُ؛ كل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلقَ بعضهم بعضا ( الأقرب ).

_ أمدًا: الأمد: الغاية والمدى، الأمد والأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدّة الزّمان التي ليسَ لها حد محدود ولا يتقيَّد ………. والأمد مُدَّة لها حد مجهول …. والفرق بينَ الزّمان والأمد أنَّ الأمد يُقالُ باعتبار الغاية، والزّمان عام في المبدَأ والغاية، ولذلكَ قالَ بعضُهم: المدى والأمد يتقاربان ( المفردات ).

التَّفسير:

من هم أصحابُ الكَّهف؟ وأينَ كانوا؟ وما هيَ أحوالهم؟

وردَ في كتاب (( سراديب الموتى بروما )) Catacombs of rome أحداث مشابهة تماماً لأحداث أهل الكهف، وفيما يلي ملخص محتوياته:

لم يكُن المسيحيين الأوائل مشركين، والدّليل عليهِ تلكَ السّراديب التي عثروا عليها بالقُربِ من روما حيثُ كانَ المسيحيّون الأوائل يختفونَ فيها فارّين من اضطّهاد الحُكومة الرّومانيّة، لقد عثروا في السّراديب على كثير من اللوحات التي دوّنَت فيها أحوال ذلكَ الزَّمن.

ويتّضح منها أنَّ المسيحيّة في بدايتها كانت خالية من أي أثر منَ الشّرك، وأنَّ هؤلاء آمنوا بالمسيح عليه السّلام بصفتهِ نبيّاً مُخلصاً فحسب.

واستمرَّ الاضطهاد الروماني، طِبقاً لهذا الكِتاب، لقرونٍ، وكانَ هؤلاء يلوذونَ بهذهِ السّراديب كلَّما تشتدّ وطأة الاضطهاد حيثُ كانوا يخزّنونَ فيها المُؤَن خفيةً ويعيشونَ عليها، وفي بعضِ الأحيان ظلّوا مُختفينَ داخل تلكَ السّراديب لسنواتٍ عديدة، وفي النهاية وبعدَ ثلاثة قرون لما اعتنقَ أحد الملوك الرّومان المسيحيّة زالت هذهِ المَظالِم عن هؤلاء المسيحيين، ثمَّ إنَّ شعب

“غاث” هاجموا مدينةَ روما ودمّروا هذهِ السّراديب بعدَ أن سلبوا ما فيها، فانمحى ذكر هذهِ السّراديب شيئاً فشيئاً، ولكنَّ بعض علماء الآثار عثروا عليها خلال بحثهم عن أنقاض مدينة روما،

وهكذا حصلَ العالم على هذه المادّة التّاريخيّة الخفيّة مرّة أُخرى بعدَ ألف سنة.

وبقراءة هذا الكتاب سندركُ أنَّ التفاسير التي وردت سابقًا قد حوَت دونما شك الكّثير منَ الغثّ والسَّمين، ولكن نظراً إلى الأحداث المذكورة في هذا الكتاب لا يجوز لنا القول إنَّ كل ماوردَ من روايات بخصوص قصة أهل الكّهف لا يمتّ إلى الحقيقة بصِلة.

فهناكَ ثلاث روايات حولَ القصة، إحداها من ابن إسحاق والاثنتان من كُتُب الحديث __ تنطوي على بذرة الصّدق والحق، ولو أنَّ القارئ أعادَ قراءة هذهِ الروايات مرةً لأدركَ أنَّها تحوي الأُمور التاليّة:

1__ أنَّ هذا الحادث وقعَ بالأُمّةِ المسيحيّة.

2__ أنَّ المّظالم صُبَّت عَليهِم من قبل الرومان.

3__ تقول إحدى هذهِ الرّوايات إنَّ هذا الحادث وقَعَ لمّا وصلَ أحد الحواريين إلى عاصمة الملِك الرّوماني.

4__ بينما تقولُ رواية أُخرى أنَّ حادث أصحاب الكَّهف وقَعَ في زمن الملك دقيوس الشَّهير عندَ العرب والهنود باسم دقيانوس والذي اسمهُ اللاتيني Decuis

وأنَّ بعض المسيحيين لاذوا بالكهف خوفاً من بطشه.

5__ وكلّ الروايات مُتَّفقة على أنّ الأمّة الظَّالمة كانت وثنيَّة.

6__ وتقولُ رواية: إنَّ ملوك ذلكَ البلد أَكرهوا النَّاس على السُّجود أمامَ أصنامٍ لهم وعلى تقديم القرابين لها.

7__ وورَدَ في روايةٍ عن ابن عبَّاس إنَّ هذا الحادث حصلَ قبل زمنهِ بثلاث مائة عام.

8__ تقولُ ر واية إنَّ أصحابَ الكّهف خرجوا في زمن الملك الرّوماني بندوسيس، الذي اسمهُ اللاتيني Theodosis

والواقع أنَّهُ بعدَ مطالعة تاريخ هذهِ السّراديب نُدركُ أنَّ هذهِ الرّوايات الإسلاميّة تهدينا إلى صُلب الحقيقة بدلاً من أن تشوّش أفكارنا .

ذلكَ أنّنا نعرفُ من تاريخ الكنيسة وهذهِ السّراديب أنَّ الاضطّهاد الفردي للمسيحيين كانَ بدّأَ بعدَ حادث الصَّليب مُباشرةً، ولكنّ الاضطهاد الجماعي بدأ في روما في زمن الملك نيرون، كانَ هذا الملك مُعاصراً للحواريين حيثُ كانَ عهدهُ ما بينَ 54 إلى 68 بعدَ الميلاد ( الموسوعة البريطانيّة الطبعة الحاديةَ عشرة كلمة Neru)

وكانَ النّصارى القدامى يعتقدونَ أنَّ بطرس صُلبَ في زمن هذا الملك.

مما لاشكَّ فيهِ أنَّ نُقّاد التّاريخ المُعاصرين __ الذينَ يُحاولونَ جاهدين التّشكيك في كُلّ حادث تاريخي _ قد سعوا ليُشكّكوا في هذا الأمر أيضاً، ولكنّهم رغمّ جهودهم المُضنية ما استطاعوا إبطال ذهاب بطرس إلى روما وموته هنالك ( الموسوعة التوراتية مجلد 4 كلمة1 Peter )

نتابع في تفسير الآيات الكريمة:

نحنُ نقصُّ عليكَ نبأهم بالحقّ إنّهُم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هُدى ( 14 )

شرح المفردات:

_ نقصُّ: قصَّ أثرهُ يقصُّ قصاً وقصصاً، تتبّعهُ شيئاً بعدَ شيء، ومنهُ ( فارتدا على آثارهما قصصاً ) أي رجعا في الطَّريق التي سلكاها يقُصَّانِ الأثر، وقصَّ عليهِ الخبر والرؤيا: حدَّثَ بهما على وجههما، ومنهُ نحنُ نقصُّ عليكَ أحسَنَ القصص ” أي نبيّنُ لكَ أحسنَ البيان ( الأقرب ).

__ نبأ: نبّأهُ الخبر و بالخبر: خبّرَهُ، ويُقال: نبّأتُ زيداً عمراً منطلقاً أي أعلمتهُ.

والنبأ: الخبر، وقالَ في الكليَّات: النَّبأ والأنباء لم يردا في القرآن إلاّ لما لهُ وقعٌ وشأنٌ عظيم

( الأقرب ).

__ الحق: حقهُ حقاً: غلبَهُ على الحق، وحقَّ الأمر: أثبتهُ وأوجبهُ؛ كانَ على يقينٍ منه.

حقَّ الخبر: وقفَ على حقيقتهِ، والحقّ: ضد الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدل؛ الملك، الموجود الثابت، اليقين بعدَ الشّك، الموت، الحزم ( الأقرب ).

التفسير:

يبيّن الله تعالى: نحنُ نروي لكَ أحداثهم كما وقعت، وهذا يعني أنّهُ كانت هناك قصص شائعة بينَ القّوم عن أصحاب الكّهف، وأنَّ تلكَ القصّص القديمة عارية عن الصحَّة.

والآية السّابقة أيضاً تدلُّ على وجود قصص شائعة عن هؤلاء القّوم، ذلكَ أنّ البيان القرآني عنهم إنّما يبدأُ من هذهِ الآية، أمّا ما سبقهُ منَ البيان فهوَ كما يبدو ملخّص صحيح للروايات الشَّائعة عنهم في ذلكَ الوقت.

ثمّ يقول الله تعالى: (( إنّهم فتيةٌ آمنوا بربّهم )) أي جماعة منَ الشّرفاء أو الأسخياء أو الشَّباب الذينَ آمنوا بربّهم، ذلكَ أنَّ الفتى يعني السخيّ الكريم أو الشَّاب ( الأقرب ).

والحق أنَّ الشّباب أكثر إسهامًا في الخدمات الدينيّة على العموم، حيثُ نجدُ أنَّ كلَّ من آمنوا بالرَّسول صلى الله عليه وسلَّم كانوا أصغرَ منه سناً إلاّ قليلاً منهم.

وقد تكون كلمة “فتية” إشارةً إلى فئة معيّنة منَ النَّصارى اللاجئين في هذهِ الكهوف كانت أكثرهم تضحيةً.

وقد يكون مفهومها عامًّا يشملُ جميع النّصارى الشّرفاء الذينَ تمسَّكوا بدينهم وقدَّموا التَّضحيات طيلةَ هذهِ الفترة الممتدّة إلى ثلاثة قرون.

أمّا قولهُ تعالى: ” فزدناهم هدى” فيعني أننا زدناهم إيماناً على إيمانهم بسبب تضحياتهم.

وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربّنا ربُّ السماواتِ والأرض لن ندعوا من دونهِ إلهاً لقد قلنا إذاً شططا ( 15 ).

شرح الكلمات:

__ ربطنا على قلوبهم: ربطَ الشّيء يربطُ ويربطُ ربطاً: أوثقهُ وشدَّهُ، ربطَ جأشهُ رباطةً: اشتدَّ قلبهُ، وربطَ الله على قلبهِ: صبَّرَهُ ( الأقرب ).

___ شططاً: شطَّ شططاً: جارَ؛ أفرطَ؛ وشطَّ في سَلعتهِ شطّاً: جاوزَ القدرَ المحدود؛ تباعدَ عن الحق؛ وشطَّ في السَّومِ: غالى في الثَّمن.

والشطط: مجاوزة القدر والحد ( الأقرب ).

التّفسير:

يبيّنُ الله تعالى بالرّغمِ من أنَّ الملك والجّماهير كلهم كانوا يُعارضونَهم إلاّ أنّهُ تعالى قوّى قلوبهم وصبَّرهُم؛ فقاموا وأعلنوا عن عقيدتهم غير خائفين.

وترى الشّمسَ إذا طلَعت تزاورُ عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذاتَ الشّمال وهم في فجوةً منهُ ذلكَ من آياتِ الله من يهدِ اللهُ فهوَ المهتد ومن يضلِل فلن تجدَ لهُ ولياً مرشدا18

شرح الكلمات:

_ تزاورُ: أصلهُ تتزاورُ وقد حُذف إحدى التّائين بحسب القواعد العربيّة ومعنى تزاورُ عنهُ: عدَلَ عنهُ وانحرف ( الأقرب ).

__فجوةً: الفجوة الفرجة بينَ الشيئين؛ ما اتّسعَ منَ الأرض، ساحة الدَّار ( الأقرب ).

__ مرشدا: أرشدهُ: هداهُ أي دلَّهُ على الطَّريق، أوضحهُ لهُ، بيّنهُ لهُ، أوصلهُ إلى غايتهِ، هداهُ إلى الإيمان.

التّفسير:

لقد بيّنَ الله سبحانهُ وتعالى هنا مكان هذا الكّهف، يتّضحُ من علامات الكَّهف المذكورة هنا أنَّ هؤلاء كانوا يقيمونَ في أقصى المناطق الشّماليّة منَ الكُرةِ الأرضيّة، لأننا إذا كنّا في المناطق الشمالية منَ الأرض واتّجهنا إلى الشّرق تكون الشّمس على يميننا، وإذا كنّا في المناطق الجنوبيّة واتّجهنا إلى الشّرق تكون الشّمس على يسارنا.

كما يتّضحُ لنا من هذا الوّصف القرآني أنَّ فوهةَ كهفهم كانت في الجهة الشماليّة الغربيّة، لأنَّ المبنى الذي وجهُهُ إلى الشّمال تمرُّ الشّمسُ من يمينهِ إلى شمالهِ.ُ

وقولهُ تعالى وهم في فجوةٍ منهُ: يدلُّ على وجود مساحة واسعة داخل الكّهف، وهذا ماتؤكّدُه تلكَ السّراديب، لأنّها واسعة جداً من داخلها، وقد قدّرَ البعض الطّول الإجمالي لشوارعها وغرفها المبنيّة في الطّوابق الثّلاثة بحوالي 870 ميلاً !

كما كانَ ضوء الشّمس لا يصل داخل تلكَ السّراديب إلاّ قليلاً، ولولا ذلكَ لأُلقيَ القبضُ على أهلها، لقد حُفِرت السّراديب حفراً يوصِلُ إليها الهواء من دونِ أن يدخلَ إليها الضَّوء، الذي يدلُّ على وجودهم، إنّ هذه الغرف مظلمة لدرجة مذهلة ولايمكن أن يصل إليها ضوء الشَّمس، إلاّ إذا كانَ هناكَ تصدُّع أو تشقُّق في المبنى ( الموسوعة البريطانيّة طبعة 11 _ 1910 )

وكذلكَ أعثرنا عليهم ليعلموا أنَّ وعدَ اللهِ حق وأنَّ السّاعةَ لاريبَ فيها إذ يتنازعونَ بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربّهم أعلمُ بهم قالَ الذينَ غلبوا على أمرهم لنتّخذنَّ عليهم مسجدا ( 22 )

شرح الكلمات:

__ أعثرنا: أعثرَ فلاناً على السّر وغيره: أطلعهُ.

وأعثرَ بهِ عندَ السُّلطان: قدحَ فيهِ وطلَبَ توريطهُ وأن يقعَ في عاثور، وأعثرَ فلاناً على أصحابهِ: دلَّهُ عليهم ( الأقرب ).

_ ريب: رابَهُ يريبُ ريباً: أوقعَهُ في الريبةِ وأوصلَ إليهِ الريبة، والريب: الظُّنّة والتُّهمةُ، الشكُّ؛ الحاجة ( الأقرب ).

__ يتنازعونَ: تنازعوا: اختلفوا؛ وتنازعوا في الشّيء: تخاصموا ( الأقرب ).

__ بنيانًا: بناهُ يبنيهِ بنيانًا: نقيضُ هدمَهُ. بنى الأرض: بنى فيها دارًا ونحوها ( الأقرب ).

__ مسجدًا: المسجِد والمسجَد: الموضع الذي يُسجَدُ فيهِ؛ وكلُّ موضع يُتعبَّدُ فيهِ فهوَ مسجد، وقيلَ إنَّ المسجِد بالكسر اسم لموضع العبادة سُجِدَ فيهِ أم لم يُسجَد ( الأقرب ).

التّفسير:

لقد بيّنَ الله تعالى هنا أنَّ هذهِ الشّعوب التي ظلَّت منعزلة عن باقي العالم لزمنٍ طويل اتّصلَت هكذا بالعالم الخارجي مرّةً أُخرى، وبالتالي علمَت الدُنيا أنَّ النّبأَ الذي أدلينا بهِ عن غلبة الشّعوب المسيحيّة في آخر الزمن كانَ نبأً صادقًا تمامًا، وأنَّ السّاعةَ الموعودة التي خوَّفناكم منها آتية دونما شكْ، أمّا قوله تعالى ( إذ يتنازعونَ بينهم…… ) فعرَّجَ بهِ مرّةً أُخرى على الحالة الأولى لأصحاب الكهف، حيثُ ذكرَ إحدى علاماتهم، وقالَ: إنَّ من عاداتهم منذُ البداية أنَّهم يبنونَ المساجد أي المعابد باسم موتاهم…. بمعنى أنّهم يبنونَ الكنائس تذكارًا لصلحائهم، وبالفعل تجدونَ الأُمَّة المسيحيّة وحدها تبني الكنائس باسم صلحائها، لا يفعلُ ذلكَ المسلمونَ ولا اليهودُ، بينما يوجدُ عندَ النصارى آلاف الكنائس المبنيّة باسمِ صلحائهم، بل يدفنونَ فيها موتاهم، فثمّةَ في سراديب الموتى كنائس كثيرة بُنيت تذكارًا لأصحاب الكهف الأوائل ( الموسوعة البريطانيّة 1951م كلمة Catacomb).

سيقولونَ ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولونَ خمسةٌ سادسهم كلبهم رجمًا بالغيب ويقولونَ سبعةٌ وثامنهم كلبهُم قُل ربي أعلمُ بعُدَّتهم ما يعلمهم إلاَّ قليل فلا تُمارِ فيهم إلاّ مِراءً ظاهرًا ولاتستفتِ فيهم منهم أحدًا ( 23 )

شرح المفردات:

_ رجمًا بالغيب: الرّجم: أن يتكلَّمَ بالظّن، يُقال: “رجمًا بالغيب” أي لا يُوقف على حقيقتهِ

( الأقرب ).

__ لا تُمارِ: ماراهُ مماراةً ومِراءً: جادَلَهُ ونازعهُ ولاجَّهُ وطعَنَ في قولِهِ تزييفًا للقول وتصغيرًا للقائل ( الأقرب ).

__ لا تستفتِ: صيغة النّهي من استفتى فُلان العالَم في مسألة استفتاءً: سألهُ أن يُفتي فيها

( الأقرب ).

التّفسير:

بهذهِ الآية بدأَ بحث آخر عن أصحاب الكّهف الأوائل حيثُ يُعلن الله تعالى أنَّ النّاس مختلفونَ في عددهم، فمنهم من يقول إنّهم ثلاثة، ومنهم من يقول إنّهم أربعة، ومنهم من يقول إنّهم خمسة، ومنهم من يقول إنّهم سبعة ثامنهم كلبهم؛ ولكنَّها أقوالٌ ظنيّة فحسب.

زمنَ المفسّرينَ من استنتجَ بأُسلوب القرآن هذا أنَّ عددهم سبعة في الواقع مُحتجّين أنّ كلمة ( رجمًا بالغيب ) ما وردت بعدَ هذا العدد بينما وردت معَ الأعداد السّابقة.

ولكن هذا الاستنتاج غير سليم لأنَّ الله تعالى لم يُسند عدد السّبعة إلى نفسه، وإنّما نسبهُ إلى الآخرين، ثمَّ أردفَهُ بقولِهِ ( قل ربي أعلمُ بعدّتهم )، فلو كانَ هذا التّقدير صحيحًا لما أمرَ الله نبيّهُ صلى الله عليه وسلّم هُنا ( قل ربي أعلمُ بعدّتهم )، بل لقالَ إنَّ أصحابَ الرّأيِ الأخير مُصيبون فيما يقولون، فالحقُّ أنَّ الله قد أكّدَ خطأ أصحاب هذا الرّأي أيضًا، لأنَّ أصحابَ الكَّهف لم يكونوا خمسة أو سبعة، بل كانوا آلافًا، واختفَوا في الكهوف في عصورٍ مُختلفة، فالحقُّ أن لا أحد يعرف عددهم إلاّ الله تعالى.

لقد كانَ أصحاب الكهف يربطونَ كلابهم عندَ أبواب السراديب لينبهونهم بنباحهم إذا اقتربَ أحد منَ الرومان من تلكَ السراديب فيسارعونَ للاختباء.

أمّا قولهُ تعالى: ( ما يعلمهم إلاّ قليل ) فليسَ معناهُ أنَّ بعضَ النّاس يعلمونَ عددَ أصحاب الكّهف، بل يمكن تفسير هذهِ الجّملة بوجهين:

الأوّل: أن لاأحد يعلمُ عددهم؛ ذلكَ أنّ لفظ ” قليل ” في العربية يعني النّفي المُطلَق مثل كلمة Few في اللغة الإنكليزيّة، فيُقالُ: ” قليل منَ الرّجال يقولُ ذلكَ ….

أي لا يقولُ بهِ أحد ( الأقرب ).

والوجه الثّاني: هوَ لا يعلم حقيقة أصحاب الكهف إلاّ قليل؛ ذلكَ أنَّ الله تعالى لم يقل هُنا مايعلمُ عددهم إلاّ قليل، بل قالَ ( ما يعلمهم إلاّ قليل )، إذن فالمعنى أنّهُ لا يعلمُ حقيقتهم إلاّ قليل منَ النَّاس الذينَ هم مُلمّونَ بالتّاريخ الصّحيح؛ فهم يعرِفونَ أنَّ أصحابَ الكّهف هم المسيحيون الأوائل الذينَ كانوا يختفونَ في السّراديب؛ وأمّا غيرهم فانخدعوا بشتّى القصص الشّائعة عن هؤلاء القوم، وبالفعل فقد انكشفت حقيقة أصحاب الكّهف في النّهاية بفضل عِلم هؤلاء القِلَّة.

ثمّ يقول الله سبحانهُ وتعالى: ( فلا تمارِ فيهم إلاّ مِراءً ظاهرًا ولا تستفتِ فيهم منهُم أحدا )

أي لاتتحدَّث عنهم إلاّ حديثًا مبدئيّا دونَ الخوض في التَّفاصيل إذ لا أحد في الدُّنيا يعلمُ جميع التّفاصيل، وفي ذلكَ إشارة ربّانيّة إلى أنَّ هذا الجُزء منَ التّاريخ قد اندثر، فلا أحد يعرف تفاصيل هذا الحادث، لذلكَ لو حاولتم معرفة التّفاصيل فستخطئون، والأسف أنّهُ برغمِ هذا النّصح القرآني خاضَ المُسلمون في التّفاصيل لدرجة أنّهم حاولوا أن يسألوا اليهود والنّصارى حتى عن لون كلب أصحاب الكّهف وطولهِ، وبالتّالي ملأوا التّفاسير بروايات خاطئة يندُبُ ويبكي الإنسان لدى قراءتها.

____________________________________________________________________________

المراجع:

1- التفسير الكبير _ الجزء الرابع _ لحضرة بشير الدين محمود أحمد رحمه الله.

2_ كتاب سراديب الموتى بروما.

3_ الموسوعة البرايطانية.