قصيدة حكاية سمار:

_ أُلقيتْ في مهرجان أمير الشّعراء (( الأخطل الصّغير )) في قاعة اليونسكو، باسم الجمهوريّة العربيّة المُتّحدة، أيّام كانَ الشّاعر سفيراً لها في النّمسا.

هل في لِقائكَ، للخيالِ الزائرِ

إغضاءُ سالٍ، أم تلفُّتُ ذاكرِ .

أشقتْهُ غُربتهُ ووثبةُ ظلّهِ

عبرَ الأصيلِ … على ثراكَ العاطرِ

وحكايةُ السُمّارِ عن أوتارهِ

المتقطّعاتِ وشملهِ المُتناثرِ!

كنتَ الحفيَّ بهِ… وكانَ ولاؤهُ

وهواكَ، قادمتيْ جناحَي طائرِ

كم في نديّكَ من شموعِ شبابهِ

ما ذابَ بينَ مزاهرٍ ومجامرِ !

لا تجرحنَّ لهُ بقيّةَ زهوةٍ

إن لم يهزَّكَ بالطريفِ النادرِ

عبَثُ اللّيالي لم يدع في حقلهِ

إلاّ اذّكارَ خمائلٍ وأزاهرِ !

لبنانُ ….. جِئتُكَ مِنْ غياباتِ السَّرى

ويدي على دقَّاتِ قلبٍ حائرِ

وحفيفُ أشباحِ الونى في مسمعي

ورفيفُ أطيافِ المُنى في ناظريْ

وإذا عروس…… ما استقرَّ رواؤها

إلاَّ على مُتباينٍ متنافرِ

بسمَت إليَّ …… وما سمعت للمَّتي

الغبراء همسة وازعٍ أو زاجرِ

منْ أنتِ قلتُ لها ….. ففيك تقاتلتْ

شتَّى غوايات الفتون الآسرِ

أقبلتِ منْ صدرِ الرّبيعِ وقُلتِ لي:

أتُحبُّني ؟ أتُحبُّني ؟ يا شاعري

أنا بدعة الدُّنيا وسِرُّ خلودِها

هُتكَتْ على عُرْي الحياة ستائري

تتلمَّظُ الشَّهواتُ فوقَ محاجري

وتُعَربدُ اللَّذاتُ خلفَ مآزري

وتسلسل النَّعماءَ حمرُ مراشفي

ويلفُّ جيدَ النَّجمِ شُقرُ ضفائري!

حسناءُ ! لا تتقرَّبي من خاطري

طويَ البساطُ ونامَ جفنُ السَّامرِ !!

وفتحتِ أبوابَ الثَّراءِ، وقُلتِ لي:

أتحبّني ؟ أتحبّني ؟ يا شاعري ؟

أنا متعةُ العاني وفيءُ دروبهِ

وملاذهُ من كلّ صرفٍ غادرِ

ترمي بأكداسِ النضارِ مواطئي

وتلفُّ جلبابَ الظَّلامِ جواهري

وأقيمُ حولَ ركاب عمركَ أعْبُداً

يتسابقونَ إلى نداك الآمرِ

_ حسناءُ ! لا تتلاعبي بشعائري

حسبي منَ الينبوعِ جرعةُ عابرِ !!

وطلعتِ من حجبِ الغيوبِ وقُلتِ لي:

أتُحبُّني ؟ أتُحبّني ؟ يا شاعري !

أنا فيضُ آلامٍ ووحيُ ضلالةٍ

وسرابُ أحلامٍ وقبرُ ضمائرِ !

أقتاتُ بالجُرحِ السخيّ وأشتهي

لو قبَّلتْ شفتايَ مديةَ ناحري !!

لا تهتدي بسنا الشُّموسِ أحبَّتي

وتموتُ دونَ مواردٍ ومصادرِ !

حسناءُ ! لا تتغيّبي عن ناظري

هذي يدي …. فتصرَّفي بمقادري !

لبنان __ ما خبَّأتُ عنكَ نوازعي

أتراكَ فيها عاذلي أم عاذري

يُغنيك عني، أخوةٌ، ما غرَّدوا

إلاَّ وملءُ رُباكَ ذَوبُ حناجرِ !

شربوا جمالكَ فانتشوا، وتأنقوا

في بثّ نشوتهم، تأنُّقَ قادرِ

ولربما صاغوا سناهُ أساوِراً

لمعاصمٍ وخواتماً لخناصرِ !

جمعتهمُ شيمُ الوفاءِ لماردٍ

في الشّعرِ جوّابِ الأعالي قاهرِ

ضفروا لهُ من دوحِ أرزكَ غارَهُ

أكرِم بمضفورٍ لهُ وبضافرِ !

هزَّ الشَّذا أعطافهمْ فتساءلوا

من أي مخضلِّ الكمائمِ، ناضرِ

قدْ يذكرُ الندمانُ بينَ كؤوسهمْ

ما قالَ للعنقودِ سرُّ العاصرِ !

يا لليدِ البيضاء ! في مرّ النّدى

من زنبقِ في القفرِ نضوِ هواجرِ !

كم مُطبقٍ بابَ الخلودِ وراءهُ

وشجونهُ في الدَّربِ زادُ مُسافرِ !

ما اعتادَ هذا الشّرقُ أن يُهدي إلى

نبغائهِ الأحياء، أجرَ مُناصرِ !

****************

أمجنَّحَ الحرف الحرون ومرقصَ

الوتر الحنونِ على أناملِ ساحرِ !

الذّكرياتُ على الزّحامِ تدافعتْ

فكأنّهنّ لديك سربُ ضرائرِ

فلأيِّها تومي براحةِ تائبٍ

ولأيّها ترنو بمقلة غافرِ !

غامرتَ في طرقِ الحياةِ ولم تزلْ

طرقُ الحياةِ حوافزاً لمُغامرِ

فهَصَرتَ زهرتها بدمعة شاكرٍ

وعَصَرتَ شوكتها ببسمةِ صابرِ!

مَن كانَ مِحرابُ الجّمالِ مطافَهُ

حمَلَ الحياةَ على أكفّ بشائرِ

***************

كم جولةٍ لكَ في الصّبابةِ والهوى

سدَّت مسالكَها حبائلُ ظافرِ

ولكَم تخطَّفَكَ الخَيالُ فعُدتَ __

بالعُشَّاقِ منْ حرمِ الزّمانِ الغابرِ !

(( عمرٌ ونعمٌ )) يا خيامُ تلفّتي

صوبَ العبيرِ ويا نجومُ تسامريْ!

نثرا شفوفَ اللّيلِ حولَ جدائلٍ

لمُعانقٍ وسواعدٍ لمُخاصرِ

يا طيبَ ما اختصرا رسالاتِ الهوى

فيهِ ويا طيبَ الصَّدى المتطايرِ!

حُبٌّ، طَوَتهُ يدُ البلى ونشرَتهُ

وأعدتَ ماضيهِ حديثَ الحاضرِ !

*****************

وشجاكَ (( عروة )) وهوَ يسحبُ خلفهُ

في الرَّملِ تابوتَ الشَّبابِ العاثِرِ !

وخيالُ ((عفراء )) يمرُّ أمامَهُ

والمَوتُ في ذلّ العنيدِ الصَّاغرِ !

فإذا مغاني البيد في ذكراهما

رفَّاتُ أهدابٍ وبوحُ سرائرِ

أشفقتَ أنْ ينسى الزّمان مكانَها

فسللْتها من أدمعٍ ومحاجرِ !

الحبُّ مجلى الله كم من عابدٍ

ساهٍ بهيكلهِ الوضيءِ وساهرِ !

لبستْ عليهِ المجدليّةُ خلعةً

بيض اء، باركها سماحُ النَّاصري !

غنَّيتَهُ بجمالهِ وجلالهِ

ورَوَتهُ عنكَ حراتئرٌ لحرائرِ !

ما بالُ نعمتهِ خبَتْ نفحاتُها

في كاسِ عِربيدٍ، ومزهرِ فاجرِ !!

نُرمى بمنسوبٍ إليهِ وربّما

أنفتْ تلاوتَهُ شفاهُ عواهرِ !!

********************

يا مُطرِقاً يصغي بخشعةِ راهبٍ

متواضِعٍ ويغضُّ جفنَ تفاخُرِ

ما زلتَ تسحبُ فوقَ كلِّ مُعاندٍ

ذَيلَ الشّموخِ وفوقَ كُلّ مُكابرِ !

أولَستَ من نسل الأُلى ؟ نسلوا العلى

وكسّوا دياجيرَ الورى، بمنائِرِ

وتطلَّعوا صوبَ الشُّموسِ وأسرجوا

للفتحِ صهوةَ كلّ مُهرٍ ضامرِ !

ومَضَوا إلى غاياتِهم، ثُمَّ انثنَوا

وعلى خُدودِ النّجمِ وشمُ حوافرِ !

عرفَتكَ دنيا البغي صرخةَ ناقمٍ

يُزري بهيبتها وغضبةَ ثائرِ

أيّامَ، أعناقُ البِلادِ جريحةٌ

بقيودِ نزَّازِ الضّغينةِ، جائرِ

فهززتَ عزمةَ كُلّ وانٍ مُتعبٍ

وأثرتَ نخوةَ كل عانٍ سادرِ

فإذا الجِبالُ الشمُّ لَفحُ معاقلٍ

وإذا السّهولُ الفيح نفحُ مقابرِ

وإذا العبودياتُ تخلعُ ليلَها

مِزَقاً على قدمِ الصَّباحِ السافرِ !

لا يُحزِننكَ ما ترى لِفلولِها

في القُدسِ مِن راعٍ لها ومُؤازِرِ

أوْ ما تُعبّئُ في الصَّحارى من قنا

للقاءِ مخضوبِ الوِشاحِ جزائري

أو ما تصبُّ على الخليجِ أكُفُّها

مِن سودِ آثامٍ وحُمرِ جرائرِ

هيَ سكرة المذبوحِ آلَ بعُنقهِ

ونزا على السكّينِ نزوةَ خائرِ !

أرأيتَ كيفَ تجمَّعَت هَبواتها

في عاصفاتٍ زمازمٍ وزماجرِ

وَعَدَت على أرضِ الكنانة رعَّفَ __

الأحقاد شُرّابَ النّجيعِ الفائرِ

فمشى إليها كلُّ أروعَ غاضبٍ

وخُطاهُ خَوضُ ملاحمٍ ومجازرِ

هيهاتَ ما لانَت عقيدةُ مُؤمنٍ

مهما تحدَّتها غوايةُ كافرِ

يا طول ما انهدَّ الحديد مبعثراً

قِطَعاً على خشبِ الصليبِ الطَّاهرِ !

********************

ما للهديرِ على الهديلِ طغى وما

ليَدي تشدُّ على جموح نافرِ

طالَ انتظارُ أحبّتي وتململوا

يا ملءَ أبصارٍ لهم وبصائرِ

فاطلع عليهم إنَّ دهركَ تابَ عن

أهوائهِ وأتاكَ سمحَ الخاطرِ

يكفيكَ أن تلقاهُ يُطلعُ دولةً

مِن مجدِ أقلامٍ وعزّ منابرِ

وترى الضلالَ على سنا أعتابها

شلواً تجرّره جِباهُ جبابرِ !

1961م عمر أبو ريشة