الفارس قصيدة لعمر أبو ريشة:

شيّدَ اميل البستاني ضريحهُ الفخم ولم يُدفن فيه، فقد سافرَ في البحرِ ولم يرجع.

كيفَ يرتدُّ على مداه، مرادُهْ وعلى ملعبِ الخلود طرادُهْ

فارسٌ، نازلَ اللّيالي، فعزَّتْ بالتّلاقي، جيادُها وجيادُْ !

ما درَتْ في الزِّحامِ، أيُّهما أغزرُ فيضاً، عنادُها أم عنادُه !

الجراحاتُ، لهوُها وهواها والفجاآت، ورْيُه وزنادُهْ

خاضها والعزيمةُ البكر تحدوهُ __ وفي قبضةِ الشّموخِ قيادُهْ !

كلّما غابَ في غِيابها السُّود __ تراءى من خلفها تَهوادُه

كم عثارٍ من جبهةِ النَّصرِ أندى طابَ فيهِ اعتزازهُ واعتدادُهْ

لصُوى الحقّ في المتاهِ، خُطاهُ ولأسطورة الجلاّدِ جلادُهْ

كلّ عنقاء مغربٍ من أمانيهِ __ جلاها في خدرها ميعادُه

صهوةُ المجد ما امتطاها جبانٌ كلُّ نجمٍ عُشّاقهُ أندادُهْ !

وأطلَّ الصّباحُ والفارسُ الأسمرُ __ في كلّ غمرةٍ أرصادُهْ

مثخّنٌ بالطعانِ ما عرفَ الشكوى __ ولا عضَّ سيفَهُ إغمادُه

تُشرقُ البسمةُ اللَّعوبُ بخدَّيهِ وتُخفي ما ازورَّ منهُ فُؤادُهْ

حلفَ الكبر أن يشيرَ إليه وعلى راعِفِ الجّراح ضِمادُه !

فجرى ! والحياةُ موكبُ آلاءٍ __ تَحارُ الظّنون، أينَ امتدادُه

ضاربٌ، مطلقُ الأعنّةِ في الأرض __ تدانَت جبالُهُ ووهادُه

أورقَ الرّملُ في مساحبِ ردنَيه __ فناجى مُخضلَّهُ ميَّادُه

ونما الخيرُ في الرّكابِ فكانتْ كلٌُّ أيَّامِ دربهِ أعيادُه !

رِحلةُ العمرِ مثلما اعتُصرَ الرّوضُ فكانَ العبيرُ لا أورادُهُ !

*******

من يقولُ، انتهى أميل وولَّى وانطوى في الرَّحى الطَّحونِ عِتادُه

سائلِ المُتعبينَ في الشَّرقِ عنهُ هَل خبَت نارُهُ وهل جفَّ زادُهُ ؟

أنتَ ميّتٌ، يا موتُ، بينَ يديهِ تِلكَ أوتارُهُ وذا إنشادُهْ !

كانَ عزاكَ بالرّخيصِ منَ الأبرادِ إمَّا تمزَّقَت أبرادُهْ

إنّها سيرة السّيوفِ، وعقبى كلِّ سيفٍ قِرابه ونجادُه !

لمَن القبرُ ؟ باليتيمِ منَ المرمر __ يندى جِدارُهُ وعِمادُه !

باذِخٌ، فوقَ ربوةٍ، مشرئبٌ والرّوابي مِن حوله حُسَّادُه

شادَهُ واطمأنَّ للراحةِ الكُبرى فأينَ استقرَّ منهُ رقادُه !

ولقد يذهل العظيمُ فما يُدرك ما شأوُه، وما أبعادُه !

ضاقت الحفرةُ الرَّحيبةُ عنه كلُّ لبنان مهدهُ ووِسادُه !!

بعُدَ العهد يا إميلُ، ولم يبعدْ عن السّامرِ النَّجيّ سهادُه

أينَ في (( اليرزة )) السّخية، نادٍ نعمت في ظِلالهِ قُصَّادُهُ !

أينَ كهفٌ في صدرهِ اختصرَ الكرمَ وطافتْ على العِطاشِ عهاده !

كم حملنا فيهِ النّعيمَ على الرّاحِ وسالتْ بشجوِنا أعوادُه

كم تهاديتَ، عالماً من رجالٍ بيننا، ما تشابهَت آحادُه

تُطلقُ البسمةُ التي ما عرفنا أيَّ أفقٍ محجبٍ ترتادُه

ذهبَ الأمسُ وارتمى عندَ ناديكَ وناديكَ محْكمٌ إيصادُه

ما تبقَّى إلاَّ القليلُ، بساطٌ وثراهُ ومجمرٌ ورمادُه !!

أأناجيكَ يا إميلُ، على البعدِ وللشّوقِ وهجهُ واتّقادُه

كيفَ نشكو الفراقَ والملهك المحتار __ في يوم موته ميلادُه !

طلعَ الخلدُ من محاريبهِ الزّهرِ وناجاكَ، زهوُهُ لا حِدادُه

نحنُ أسرى التراب ، ما أطلقتْنا بعدُ من طيبِ أسرِه أصفادُه

حسبنا منهُ أن قَدرنا فأحببنا ! فهانت على الحياةِ شِدادُه

وعرفنا فيهِ الجّمالَ ، وأقصى ما بلغناهُ أنّنا عُبّادُه !!

ما ضَنِّنا بما اصطفانا بهِ اللهُ ولا قلَّ عندنا إمدادُه

من رؤانا يهمي العزاءُ على الدُّنيا ومنها بقاؤُهُ أو نفادُه !

*******

وطنَ النّورِ، لا أسمي، وهل غيرك بالنّورِ عُمّدَت أطوادُه

أنتَ شوقُ السّماءِ كم زائرٍ منها على منكبيك حطَّ جوادُه

صِلةٌ ما وهتْ عُراها، تولَّى طارفُ المجدِ شدَّها وتلادُه

دأبُكَ الوهبُ ما ثناكَ عنِ الوهبِ زمانٌ ، هِباتُهُ أحقادُه

أتعبتْ كبرياؤُكَ البغيَ حتّى انتحرت تحتَ بندها أجنادُه

الهداياتُ بعض زرعكَ في الأرضِ فما ينتهي عليها حصادُه

أيّ بِدعٍ تعدُّه للغد الآتي ومِن أيّ كوكبٍ تصطادُه

عمر أبو ريشة 1963

إميل البستاني: رجل أعمال وسياسي من لبنان.

____________________________________________________________________

المرجع: ديوان عمر أبو ريشة.