قيود( قصيدة عمر أبو ريشة) :

(( أُلقيت في حفلة الذّكرى للمجاهد ابراهيم هنانو ))

وطنٌ عليهِ منَ الزّمانِ وقارُ النورُ ملء شعابهِ والنّارُ

تغفو أساطيرُ البطولةِ فوقَهُ ويهُزُّها من مهدها التّذكارُ

فتُطلُّ من أفق الجهادِ قوافلٌ مُضَرٌ يشدُّ ركابها ونِزارُ

تستيقظُ الدُّنيا على تزارها وتنامُ تحتَ لِوائها الأقدارُ

أيّامَ لم يُعجم لها عودٌ ولم تهتك لسدرةِ مجدها أستارُ

سارَت على هامِ الخطوبِ وللمنى شبحٌ على وهج الجّحيمِ مثارُ

والصُّبحُ من دفقِ الدُّخانِ دجنةٌ واللّيلُ من سيلِ اللّهيبِ نهارُ

والموتُ جُرحُ الكبرياءِ بصدرهِ يعوي وتضحكُ حولَهُ الأعمارُ

فاخفض جناحَ الكِبرِ هذي تُربةٌ غمرَ الخلودَ أريجُها المِعطارُ

في كُلِّ صقعٍ من جماجمِ نشئها حَرَمٌ على شرفِ الجّهادِ يُزارُ

***********

ما أقربَ الماضي الذّبيح يغيبُ في طيَّاتِهِ المستبسلُ الجّبّارُ

نوحُ المآذِنِ ما يزالُ بمسمعي تدوي بهِالآصالُ والأسحارُ

فكأنّما بالأمسِ ضلَّتْ في الدُّجى سفُنٌ، ومالَ على الرّمالِ منارُ

يا منّة الزّمنِ البخيلِ ومنتهى حُلُمِ العُلى، إنَّ الحياةَ إسارُ

مرَّت لياليكَ العِذابُ وأنتَ في الأجفانِ طيفُ العزّة الخطَّارُ

ماذا وراءَ غياهبٍ لُجيَّةٍ قصَّت بهنَّ جناحي الأسرارُ

روحٌ على شفةِ الخّلودِ وهيكلٌ خاوٍ على قدمِ الفنا ينهارُ

ذكراكَ عُرسُ المَّجدِ لم يكسرْ لهُ دفٌّ، ولم يحطمْ لهُ مزمارُ

تشدو بنات النّور لحنَ جلالهِ وعلى سواعدها اللّدانُ الغارُ

ونِقالُهُ الزّاهي ضحايا حُرّةٌ وبساطهُ الضّافي دمٌ مدرارُ

يهمي بنفحاتِ البطولةِ مِثلما يهمي بنفحاتِ الرُّبى آذارُ

فافتح كوى الآبادِ واسفَح نظرةً تعيى بحلّ رموزها الأفكارُ

هذي الدّيارُ عشقتها ولطالما هزَّت حنينَ العاشقينَ دِيارُ

تلكَ القوافلُ من شبولةِ يعربٍ ما زالَ منها فيلقٌ جرَّارُ

تتواثبُ الويلاتُ نصبَ عيونهِ ولها على عُنقِ الوفا أظفارُ

يهفو إلى تمزيقهنَّ وليسَ في كفّيهِ من حلل الرّدى بتّارُ

أقسى جراح المجدِ جُرحٌ لم تكُنْ تقوى على تضميدهِ الأحرارُ

***********

والقدسُ، ما للقدسِ يخترقُ الدما وشراعهُ الآثامُ والأوزارُ

أيُّ العصورِ هوى عليهِ وليسَ في جنبيهِ من أنيابهِ آثارُ

عهدُ الصَّليبيينَ لم يبرحْ لهُ في مسمعِ الدُّنيا صدى دوَّارُ

صفَّ الملوكَ فما استباحَ إباؤهم شرفَ القِتالِ ولا أُهينَ جِوارُ

ناموا على الحُلمِ الأبيّ فنفَّرتْ منه الطيوف بنوَّةٌ فجَّارُ

صلبوا على جشعِ الحياةِ وفاءَهم ومشوا على أخشابهِ وأغاروا

وبكلِّ كفٍ غضّةٍ سكينةٌ وبكلّ عرقٍ نابضٍ مِسمارُ

مدّوا الأكفَّ إلى شراذم أمّة ضجَّت بنتنِ جسومها الأمصارُ

ورموا بها البلدَ الحرامَ كما رمَت بالجيفة الشَّطّ الحرامَ بِحارُ

وبنوا لها وطناً وعبق محمّدٍ وابنُ البتول بأفقه زخّارُ

أينَ العهودُ البيضُ ترقبُ فجرها بتلهُّفٍ صيَّابةٌ أبرارُ

ولَّت وفي حلقِ العروبةِ بحّةٌ وعلى مراشفها العِطاش غبارُ

إنَّ الضَّعيفَ على عريقِ فخارهِ حَمَلٌ يشدُّ بعُنقهِ جزّارُ

************

عفواً أبا الأحرارِ كم من زفرةٍ مخنوقة أخشى الغداة تثارُ

فإذا وجمتُ فلستُ أوّل شاعرٍ تعبت وراء بنانهِ الأوتارُ

أنا عندَ عهدكَ لا تلينُ شكيمتي كلاّ ولا يُعزى إليَّ عثارُ

لا عشتُ في زهوِ الشَّبابِ مُنعماً إن نالَ من زهوِ الشّبابِ العارُ

1937 عمر أبو ريشة