المذاهب الأدبيّة ( الاتّباعيَّة ): يُقصدُ بالمذاهب الأدبيّة منَ النَّاحية النظريّة المذاهب التي وضعَ أُصولها الشُّعراء والكُتَّاب أو النُقَّاد وبيَّنوا الأصول النظريَّة التي تقومُ عليها، وذلكَ لأنَّ الحقيقة التَّاريخيّة هي أنّ المذاهب الأدبية حالات نفسيَّة عامَّة، ولَّدتها حوادث التَّاريخ وملابسات الحياة في العصور المختلفة، فجاءَ الشُّعراء والكُتَّاب فوضَعوا للتَّعبير عن هذهِ الحالات النَّفسيّة أُصولاً وقواعد يتكوَّن مِن مجموعها المذهب أو ثاروا على على هذهِ القواعد والأُصول لكي يتحرَّروا مِنها، وبذلكَ خلَقوا مَذهباً جديداً.

والمَذهب الأدبي يظهرُ ثمرةً لظروفٍ ومُقتضياتٍ خاصَّة فيطغى على غَيرهِ منَ المذاهب ويظلُّ ساداً مُسيطراً، حتَّى إذا فترَت دواعيه رأيناهُ يتخلَّى تدريجيَّاً عن صدارتهِ أمامَ مذهبٍ أدبيٍّ جديد تهيَّأَت لهُ أسباب الوجودِ، وإن كانَ ذلكَ لا يعني بحالٍ أنَّ آثارَ المذهب القديم تختفي كليَّة منَ الأدب.

والمذاهب الأدبيَّة على اختلافِ ألوانِها تعبيرات أدبيَّة مُتميِزة تقوم على دعائِم منَ العقلِ والعاطفة والخيالِ، وقد يُتاح لإحدى هذهِ الدَّعائم في عصرٍ منَ العصور غلَبة وسُلطان فإذا هيَ مذهبٌ أدبيٌّ سائِدٌ يستعلي على غيرِهِ من مذاهب التَّعبير، وعلى هذا تتعاقب المذاهب الأدبيّة بتعاقب العصور ويأخذُ اللّاحق ما تركَ السَّابق معَ النّقصِ منه أو الزّيادة عليه تبعاً لأوضاع المجتمع في عصرهِ.

وجديرٌ بالذِّكر أنَّ تصنيفَ الشُّعراء وفقَ مذاهب معيّنة يقومُ على السّماتِ الغالبة في أشعارهِم، فقد نجِدُ سِمات لأكثر من مذهب في قصيدةٍ واحدة، لكنَّ القصيدة تصنَّفُ وفقَ المذهب الذي كانت سماتهُ أكثر بروزاً فيها.

ولعلَّ مِن أكثر المذاهب تأثيراً في الأدب العربي: الاتّباعيّة _ الإبداعيّة _ الواقعيّة _ الرّمزية.

الاتّباعيّة ( الكلاسيكيّة ):

لغةً: مشتقَّة مِن كلمة لاتينيّة/ classic/ ومعناها وحدةٌ في الأسطول أو فصل دراسي أو طبقة، وتُطلق على الطَّبقة العُليا في المجتمع إذ كانَ المجتمع في أوروبا ينقسم إلى طبقات أعلاها طبقة الكلاسيك.

واصطلاحاً: هي مذهب أدبي ينزعُ إلى المحافظة على الأصول اللُّغويّة السَّليمة في رتابة وعناية والتَّقليدُ ومحاكاة الأدب القديم وخاصَّةً الأدب اليوناني، وعندما دخلت كلمة الكلاسيكيَّة إلى الثَّقافة العربيّة عُرّبَت بالاتّباعيّة.

نشأة المذهب الاتّباعي وأبرز أعلامه:

الاتّباعيّة أوّل مذهب أدبي ظهرَ في أوروبا بعدَ عصر النّهضة أو بعدَ حركة البَعث العِلمي التي بدأت في القرن الخامسَ عشر. والاتّباعيّة في الأدب الأوروبّي مُرتبطة بالمراحل التي مرت في تاريخ الشُّعوب حينما شعرَ النَّاس أنَّ عصرهم أكثر يقظةً وعاليّةً وعقلاً وحِكمةً منَ العصر الذي سبقهم ممّا استوجبَ ظهور أدب يُناسب سِمات هذا العصر.

وقد لقيَ المذهب الاتّباعي قبولاً في ذلكَ العصر لأنَّ روحَ المجتمع السَّائدة فيه هي روح المحافظة والتَّقاليد والأرستقراطيّة التي توحي بها نُظُم الحكم الملكي والإقطاع، ومن ثُمَّ وَجدت الاتّباعيَّة في كُلِّ ذلكَ بيئةً صالحةً لنموِّها وازدهارها.

ومِن أشهر الكُتَّاب الاتّباعيين في أوروبا ( بيير كورني ) الذي ألّفَ مجموعة كبيرة منَ المسرحيَّات منها: ( السيّد ، هوراس، أوديب )، وجان راسين ومِن أشهر مسرحيّاتِه ( أندروماك ) وموليير الذي امتازَ بأعمالهِ الكوميديّة، مثل: ( المتحذلقات، النّساء العالمات، دون جوان، مريض الوهم، البخيل ) ويُعَدُّ لافونتين مِن أبرز الشُّعراء الاتّباعيين، وترجعُ أهميّتهُ إلى أنَّهُ استطاعَ تطوير الآداب القديمة.

أمّا نيكولا بوالو فقد جمَعَ بينَ الشّعر والنَّقد وكانت آراؤهُ النّقديَّة قانوناً التزمهُ الشُّعراء الاتّباعيون مِن بعدِه ومن أعمالِه: ( الأهاجي، الرَّسائل، الفنّ الشّعريّ ).

أمّا في الوطن العربي فقد أحسَّ الأُدباء بتردّي الشّعر لفظاً ومعنىً فراحوا يحاولونَ تخليصهُ مِن جمودِه، وذلكَ بالعودة إلى روائع الشّعر العربي، والعمل على نشرها، وراحَ الشُّعراء يتبارونَ في محاكاتها لتكونَ هذهِ النَّهضة جُزءاً منَ النَّهضةِ الشّاملة التي بدأها العرب منذُ القرن التَّاسع عشر.

الاتّباعيّة العربيّة وأبرز أعلامها:

لقد كانَ لحركتي الإحياء والتَّحديث روَّاد كِبار أصَّلوا مبادئ الفلسفة الاتّباعيّة في الشّعر العربي وأحيوا التُّراث العربي القديم وقاوموا تدهوُّر الأدب وانحطاط أساليبه في القرن الماضي فعملوا على نشر النَّماذج الأدبيّة القديمة الممتازة، ثمَّ قلَّدوها بإنشاء أدب مُشابه ولكن بنظرات حديثة.

ومن أبرز أعلام الاتّباعيّة العربيّة:

محمود سامي البارودي الذي يُعدُّ رائدها، فقد عمِلَ على إعادة الحياة إلى الشِّعر العربي عن طريق تقليد روائعهِ ومحاكاته، كما عمِلَ على معارضةِ روائع الشُّعراء القُدامى، فانصرفَ إلى الشّعر القديم وعكفَ على دراستهِ وخرجَ بأفضل نماذجهِ التي جمعها في كِتابهِ ( مختارات البارودي ) يحدوهُ حبٌّ عميقٌ لهذا الأدب، مُؤمناً بأنَّ الفنَّ تهذيبٌ وصقلٌ وجُهدٌ متَّصلٌ وتحسينٌ مُستمرٌّ وبأنَّ الطَّبعَ وحدهُ لا يكفي ولذلكَ كانَ يتعهَّد شعرهُ دائماً بالصَّقلِ والتَّهذيب.

وقد اقتفى أثرهُ عددٌ كبيرٌ منَ الشُّعراء، منهم: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرَّافعي وعلي الجارِم والجواهريّ.

ومن شعراء الاتّباعيَّة في سورية محمد البزم وخليل مردم بك وبدر الدّين الحامد وخير الدين الزّركلي وبدوي الجّبل، ومن لبنان ناصيف اليازجي وابنهُ إبراهيم اليازجي، ورشيد سليم الخوري.

خصائص الاتّباعيّة العربيّة:

1_ محاكاة القدماء: لقد آثرَ أدباء الاتّباعية محاكاة شِعر الفُحول في عصرَي ما قَبل الإسلام وصدرهِ والعصرين الأموي والعبّاسي، وداروا في فلكِ أغراضِهِ فنظموا المديح والرّثاء والهِجاء…….، كما قلَّدوهم في معانيهم وصوَرهم وألفاظهم وتراكيبهم ونجهم فاعتنوا بمطالع قصائدهِم وصرّعوا معظمها على عادة الشُّعراء القدماء، قالَ أحمد شوقي:

سلامٌ مِن صَبا بردى أرقُّ ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ

وكثيراً ما تعدّدَت موضوعات الشّاعر في القصيدة الواحدة، وقد صرَّحَ البارودي بذلكَ قائلاً:

تكلمتُ كالماضينَ قلبي بما جرتْ بهِ عادةُ الإنسانِ أن يتكلّما

فلا يعتمدني بالإساءةِ غافلٌ فلا بدَّ لابنِ الأيكِ أن يترنَّما

وقد تداولوا التَّعبيرات المشهورة في الشّعر القديم مِن مِثل: ( ورُبَّ، لعَمري، ودّع، ليتَ شعري، رُويدكَ ) كما نجدُ في قَول محمد البزم:

ليتَ شِعري كيفَ يُرجى وصلُ من يخشى الظّلال؟

2_ مُعارضة قصائد القدماء: اتَّجهَ شُعراء الاتّباعيّة إلى نماذج شامخة في العصور الزَّاهية يحتذونها في الإطار الخارجي للقصيدة، فحافَظوا على البَحر الواحِد والقافية الواحدة، والتزموا وِحدة البيت، وقد عارَضَ البارودي عنترة والنَّابغة والمتنبّي وغيرهم، فقصيدةُ المتنبّي التي قالَ فيها:

أودُّ منَ الأيامِ ما لا تودّهُ وأشكو إليها بيننا وهيَ جُندهُ!

عارَضَها البارودي قائلاً:

رضيتُ من الدُّنيا بما لا أودّهُ وأيُّ امرئٍ يقوى على الدَّهرِ زندُه؟!

كما عارضَ أحمد شوقي البوصيري الذي يقول:

أمِنْ تذكُّرِ جيرانٍ بذي سلَمٍ مزَجتَ دمعاً جرى مِن مقلةٍ بدمِ؟!

فعارضَهُ شوقي قائلاً:

ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلمِ أحلَّ سفكَ دَمي في الأشهرِ الحرمِ

وقد كانت معارضات أحمد شوقي للأقدمين جِسراً إلى موضوعاتٍ جديدةٍ، وقد عارضَ الشَّاعر محمّد البزم مشاهيرَ الشُّعراء القُدماء ( المتنبّي والمعرّي ) والمُعاصرين ( أحمد شوقي والرّصافي ) كما عارضَ قصيدةَ خير الدّين الزركلي ( نجوى ) التي مطلعها:

العينُ بعدَ فراقها الوطنا لا ساكناً ألِفَت ولا سكنا

بقصيدتِهِ ( كلّهم أبث )التي مطلعها قولهُ:

لا تبكِ أوطاناً و لا سكنا يا خيرُ و انشُدْ غيرَها وطنا

3_ جزالة الألفاظ ورصانة الأسلوب:

حرصَ الشُّعراء الاتّباعيون على جزالة الألفاظ واختيار أفخمِها، وفرَّقوا بينَ ألفاظ الواقع المُحيط بهِم، كما أفلَحَ نفرٌ منهم في معارضةِ الشُّعراء القدماء في عدد مِن قصائدِهم واتّسمَ شِعرهم بدورانِهِ في فلكِ أغراض فحول الشُّعراء العرب وبمَيلهِ إلى الجزالةِ والفَخامةِ والقوَّة واستعمال الكثير منَ التعابير الشِّعريّة القديمة.