قصة الغداء الأخير:

أبو حازم أب لأربعة أبناء بنت وثلاثة أولاد راما عمرها خمسة عشر عامًا وورد عمره عشر سنوات وتيم عمره ست سنوات أمّا حازم فكان عمره عشرون عامًا، وزوجة أبي حازم اسمها زينب امرأة جميلة المحيّا تحب عائلتها كثيرًا ومتفانية في خدمة أُسرتها، أبو حازم كان دمثَ الخُلُق وكان يعملُ موظفاً في حقول النفط، يعمل مدَّة خمسة عشر يومًا متواصلة من الشّهر ثمَّ يقضي عشرة أيام مع أُسرته، في أحد الأيام تسلَّم مكافأة مالية في عمله لإخلاصه واجتهاده، وعندما عاد إلى بيته قرر أن يَخرج في نزهة مع عائلته، كان لديهم بيت صغير في مزرعة يملكونها، حضَّروا كل ما يلزمهم، وتوجهوا إلى منزلهم الذي في المزرعة، كانَ الفصلُ خريفًا، الجميع كان سعيدًا اعتذروا من كلّ من كانَ ينوي زيارتهم، السعادة غامرة الضحك والمُزاح، التعاون والبهجة، أبو حازم وحازم مهمتهم شواء اللّحم، وزينب والآخرون يقطعون الخضراوات وينظّفون المكان، رائحة الشّواء جعلت اللّعاب يجري الأولاد أبي … أبي لم نعد نقاوم هيّا، يضحك أبو حازم مِلأَ فمه فترنُّ الضحكة في المكان وتردّد الصخور صداها، وابتسم الجميع لضحكه، وأخيرًا الطَّعام جاهز، وضّبت زينب الطاولة، والتفَّ الجميع حول مائدة الطّعام يأكلون بشهيّة، شبعَ ورد وذهب إلى المطبخ غسلَ يديه وعاد إليهم وقال ممازحًا هذه أوّل مرّة أشعر فيها بالشّبع، ضحكَ الجميع وقالت أمه ردّاً على مزاحه: كم أنت مظلوم أمضيتَ عمركََ جائعًا، طلبَ أبو حازم من ورد وضع إبريق الشّاي على منقل الشّواء في الخارج، فسارع ورد لتأدية الطّلب، غابَ ورد عنهم مدّةً وجيزةً وعادَ وهو يفرك كلتا يديه ببعضهما قائلًا لقد تدفأتُ على المنقل جمرهُ ملتهب، وأردفَ قائلاً لماذا لا ندخلَ المنقل إلى هنا ونتدفأ عليه، قالَ أبو حازم إنّها فكرةٌ جيّدة، أحضرَ حازم وورد منقلَ الجّمر بحرصٍ ووضعاه في زاوية الغرفة، وسرعانَ ما بدأ الدفءُ يبدّدُ البرودة التي كانت في المكان، كانَ يومًا من أجمل ليالي العائلة على الإطلاق، عمّتهم زُهور تتصل بأخيها، فتجد هاتفه المحمول مُغلقًا فلقد نفدَ شحنهُ ترنُّ على زوجة أخيها فيرنُّ مطوّلًا ولكنَّ زينب لم تسمع الرّنين لأنَّ هاتفها كان على الوضع الصامت، حزنت زهور وقالت لابنتها ممتعضة مَن رأى أحبابه نسيَ أصحابه……

قصة الغداء الأخير

إنهم لايريدون أن يزورهم أحد لذا هم لا يجيبون على هواتفهم، غضبت ابنتها وقالت لها: أمي لا تتصلي بأحدٍ منهم مجدّدًا علينا حفظ كرامتنا.

عائلة أبو حازم تغمرهم البهجة، نظَّفوا المكان، وقامت زينب و راما بغسل الأطباق، تناولوا الشاي والفاكهة والحلوى وسط جوٍّ منَ الضحك، وروى لهم أبو حازم طرفًا حدثَت معه في صغرهِ، وفي عمله، أوجست زينب منْ كثرة الضّحك خيفةً وقالت: أعطانا الله خير ضحكنا هذا ،انقطع الضحك والمرح قليلًا عندما سمعوا ما قالته أمّهم .

بدأ النُّعاس يُداهمُ أجفانهم، أخذَ كلٌ منهم مكانه المخصّص للنوم وعمَّ الهدوء والسكينة المكان، لا يتردّد في الغرفة سوى صوت طقطقة الجمر الملتهب، وأصوات أنفاسٍ خفيفة.

أشرقت شَّمس اليوم التالي وكانََ منَ المفترض عودة العائلة إلى منزلهم عندَ الساعة العاشرة صباحاً تقريبًا، مرَّت زهور على منزل أخيها قرعت الجرس فلم يجبها أحد، عاودت الاتّصال بزينب فلم تُجب، كانت زهور متعلّقة بأخيها وعائلته كثيراً تزورهم في أوقات متقاربة، وتطمئن عليهم بشكل دائم، انقبض قلبها وشعرت بأن مكروهًا ما أصابهم اتصلت بزوجها وأخبرته بأنّ أخاها لم يعد مع عائلته إلى بيته، وأنّهم لا يجيبونَ على جوّالاتهم، قلق زوجها كثيراً وسارع بالمجيء إليها هو وابنته، قالت زهور لابنتها: عودي أنتِ إلى البيت وسنذهب أنا وأبوكي إلى مزرعة خالك ونطمئن عليهم، طلبت مروة من أمّها أن تسمح لها بمرافقتهم ولكن زهور أصرت على ابنتها أن لا تذهب معهم، لأنها تجهل ما يمكن أنْ يكون قد حدث لهم، استجابت مروة لرأي أمها وعادت إلى البيت، وانطلقت زهور و زوجها بالسيّارة متّجهين إلى مزرعة أبي حازم، كادَ قلب زهور يتفطّر من شدة القلق والخوف، ألحَّت على زوجها أن يسرع، ولكنَّ الطريق كانَ وعراً ولم يساعده على الانطلاق بسرعة، وصلوا إلى المزرعة مثقلين بمشاعر الخوف والقلق، وكانت زهور طوال الطريق تحاول الاتّصال بهم عبثاً، نزلت زهور من السيَّارة وركضت مسرعةً باتجاه الباب تعثرت قدمها فسقطت على الأرض لكنّها نهضت مجدّداً غير آبهةٍ بسقوطها، طرقت الباب بلهفةٍ وخوف، ولكن لا أحد يجيب وصل زوجها بعد أن ركنَ السيارة ورأى الرعب الذي ملأَ ملامحها فطلب منها الابتعاد قليلًا و دفع الباب بقوّة مرّات متعددة إلى أن فـتحَ الباب ، كان المشهد صادماً ورائحة الفحم المحترق تملأُ الغرفة، سارعت زهور وزوجها لتفقّدهم واليأس يسيطر عليهم فلقد كان يبدو واضحاً بأنَّ كارثةً فظيعةً قد حلَّت، كان الجميع يرقدون في أماكن نومهم إلّا حازم وُجدَ خلف باب الغرفة تماماً وكأنه استيقظ وحاول الخروج خارج الغرفة ولكنَّه فقدَ وعيه وسقطَ على الأرض، صرخت زهور صراخاً مدويّا فتجمع الجيران على أثر الصّراخ أما زوجها فكان مذهولاً من هول المصيبة قاموا بسرعة بنقلهم إلى المشفى والأمل لديهم كان ضئيلاً، ما هي إلا دقائق في المشفى حتى خرج الطبيب وأخبرهم بأنّ خمسة فارقوا الحياة، والوحيد الذي نجا هو حازم ولكنّه بحاجةٍ إلى علاج، انتحب الجميع والصراخ العويل هزَّ جدران المشفى، بكاؤهم جعل الممرضات والأطباء والموظفين في المشفى يبكون أيضاً، الجنازة كانت مهيبة خمسة جثامين محمولة على الأكتاف، خمسة قبور محفورة، تمّت مراسم الدّفن، كان الجو خانقاً والحزن يلفُّ الأرجاء، حزنَ عليهم القريب والغريب، بعد انقضاء فترة العزاء، تفرَّغت زهور للاعتناء بحازم الذي كان لا يزال راقداً في المشفى يتلقى العلاج، فرح حازم عندما رأى عمّته، التي راحت تعتني به كما لو أنّه ابنها مضت ثلاثة أيام والعمّة الحنون تواظب على زيارة حازم والاعتناء به، طمأنها الطبيب على وضعه وأخبرها بأنّه بإمكانه الخروج غداً، حازم سألها يوماً ما الذي جرى لي لماذا أنا في المشفى، فأخبرته بأنّه تعرّض للاختناق، وكان دائماً يسألها أين أمي أين أبي !؟وإخوتي لماذا لا يأتون للاطمئنان عليّ كيف يهون عليهم أمري ؟! زهور تنهار بالبكاء وتدير وجهها حتى لا يرى دموعها، خرج حازم منَ المشفى بعد أن تعافى، ورافقته عمَّته إلى بيتها، بدأ القلق يساوِرُ قلب حازم ، وسأل عمّته لماذا تأخذينني إلى منزلك وليس إلى منزلنا؟! فلم تُجب على سؤاله، إلى أن دخلوا إلى المنزل أجلسَت العمّة ابن أخيها ، كان الصمت مريباً ورهيباً نظرت زهور إلى زوجها وابنتها محاولةً استجماعَ قوَّتها لتخبرَ حازم بحقيقة وفاة أهله وإخوته، قالت بصوت مخنوق يا حبيبي يا بنَ أخي كلنا راجعون إلى الله كان حادثاً مؤلماً ولكنها مشيئةُ الله وأقداره ونحن كمؤمنين ليس علينا سوى الصّبر والقبول بقضاء الله وقدره وانهالت الدموع غزيرة من عينيها، حازم سألها بإلحاح ماذا تقصدين هل ماتوا ؟! جميعهم ؟ لماذا وكيف وراح يصرخ بعويل لم يُسمع له مثيل ويناديهم بأسمائم واحداً واحداً ويعاتبهم بحرقةٍ كيف تركوه وحده، صرخ حتى خارت قواه وعمته تضمه إلى صدرها باكيةً وزوجها يواسيه ويشدُّ من أزره، مروة ربتت على كتفه وطلبت منه التماسك والصّبر وقالت له نحن أهلك نحن عائلتك الجديدة، أرجوك يا حازم تماسك علينا قبول الأقدار، وتوالت الأيام ثقيلةً عليهم ، وبعد مضي أسبوع طلب حازم من عمَّته أن ترافقه إلى المقبرة لأنَّه اشتاق لأهله وإخوته، وأخبرها بأنّه يريد أخذ أكاليل الورد ليقوم بواجب الزيارة، دخلوا إلى متجر الورود فألقت العمّة التحيّة عليه، وقالّ حازم خمسة ، فنظرّ البائع باستغراب فكرر حازم كلامه نعم خمسة أكاليل من الورود لقبور الأعزاء لقبور الغاليين، قال: البائع رحمهم الله وجعلّ مسكنهم الجنة كلّنا إلى فناء يا بني، أخذوا الأكاليل وانطلقوا إلى المقبرة كان حازم يشعر بأحاسيس غريبة قال لعمَّته مشتاقٌ لهم أنا يا عمّتي، أشعر كما لو أنني سأقابلهم وأحضنهم، فهزت برأسها مبتسمة ابتسامة ألم، كانت الزيارة مهيبة للغاية، قبّل حازم تراب قبورهم واحداً واحداً ووضع الأكاليل بعناية وجلس يحدّثهم ودموعه تنهمر غزيرة على خديه، شعرت العمّة بتماسك ورباطة جأش لم يسبق لها أن شعرت بهما من قبل ، ربَّما هي المسؤولية الجديدة جعلتها أصلبَ وأقوى، بعد أن أفرغ حازم أحزانه وخارت قواه قبّل قبورهم مودّعاً ووعدهم بالعودة وبأنّه لن يطيل غيابه عنهم أبداً ، أمسكت عمّته بيده وشدَّت عليها مؤازرةً، وانطلقا مغادرَين، وبدأ حازم حياته الجديدة متسلحاً بالرّضا بقضاء الله وقدره زادُه التقوى والإيمان، وبعد مضي ثلاثة أعوام تزوّج حازم من ابنة عمته مروة وكانت له نعمَ الزّوجةُ ونعمَ السَّند.