في إحدى المدن البَّعيدة البائسة، حيث تثقل أعباء الحياة ظهور النَّاس، وحيث لا أمل ولا فرح يُلامس القلوب، ولكن ثمّةَ ما يُضفي شيئاً منَ الدّفء على برودة المَكان وبُؤسه، فبالقرب مِن جدارٍ حجريٍ قديم كانَ يجلسُ عازفٌ شاب يُمسك ُ النَّايَ بأناملَ أنيقة وبإحساس مرهفٍ دافِئ، يعزفُ الألحانَ العَذبة.

وكانَ النّاسُ يحيطونَ بهِ، ويسندونَ ظهورهم إلى الجّدار المقابل لهُ، ويسمعونَ عَزفهُ ثمَّ يمضونَ في طريقهم سعداءَ وكأنّهم خُلقوا من جديد بلا آلام أو أحزان.

وكان هناكَ شابٌ ثقيل الدّم متبلّدُ الأحاسيس، قلبهُ يمتلئ غيظاً من هذا العازف، ولا يفوّتُ فرصةً للتشويش عليه ليُضعف من جودة عزفه.

وذاتَ يوم طفحَ الكَيل معَ الشّاب الحَسود فقالَ لزميلٍ لهُ: ( أنظر يا صديقي  إلى هذا العازف الأبله، إنّه لا يفقه منَ الحياة شيئاً إلاّ العزف، وحتى عزفه رديء ).

انتفضَ عازفُ النّاي واقفاً، وانقطعَ الصّوتُ الجميل الذي كانَ يصدرُ عن نايهِ الرّخيم ، احمرّ غضباً، وصاحَ بأعلى صوتِه كُفَّ يا هذا  !! أنا لستُ أبلهاً وعزفي ليسَ رديئاً كما قُلْتَ عنه.

كانَ صوتهُ عالياً ونبرتهُ أزعجت كلّ من حوله.

النّاسُ المتعبون الذينَ كانوا يَنسون أحزانهم لدى  سماعهم لعزفهِ، راحوا يبتعدونَ حاملينَ أحزانهم وخيباتهم معهم وكأنّهم يفرّونَ فراراً……

عادَ العازف إلى بيتهِ غسلَ وجهه فهدَأ غضبه، ثمّ جلسَ على كرسيّه وأمسكَ نايهُ وراحَ يعزف مقطوعةً حزينةً يقولُ فيها: ( يا ليتني عندما أساء الجاهل إليّ صمتُّ واكتفيتُ بأن على نايي عزفت)

عائشة أحمد البراقي