قصة أيقظه من غفلته كابوس:

كانَ حسن رجلاً طيّبَ القلب كثيراً، ولكنّهُ كانَ يلقي أذنهُ للناس ويهمّه رأيهم لدرجةٍ مبالغٍ بها، فهو يرهقُ نفسهُ بالقيل والقال …

كانَ لديهِ أربعُ بنات وكانَ يحبهنّ حباً كبيراً، أمّا زوجته هند فقد كانت هادئة الطّباع معَ النّاس، ولكنها معَ بناتِها

حازمة جداً، وأغلب الأمور لديها تندرج تحتَ اسم عيب وحرام حتى وإن لم يكن كذلك …..

كانت الفتيات تخفنَ من أمّهنّ كثيراً ومن لسانها اللاذع.

في أحد الأيّام انتشرَ خبرٌ في القرية، بأنّ وردة أُخت حسن تحبّ أحد الشّبان وتخرج لمقابلتهِ، قلقت العائلة

المحافظة من انتشار هذا الخبر، وعملَ حسن جاهداً على نفيّ هذا الكلام أمام النّاس، وكلّما قابلَ أختهُ

كانَ يوبخها ويقولُ لها: ( نجوم السّماء أقرب لكِ من أن تتزوّجي هذا الشّاب بعدَ أن أصبحت قصّتكما على كلّ لسانٍ في القريَة)

حزِنتْ وردة كثيراً ولم تترُك وسيلةً لإقناعِ أهلِها بالموافقة على هذا الشّاب فلم تلقَ آذاناً صاغية.

سيطر الحزنُ على قلبِ وردة وعقلها، وفي أحدِ الأيّام الكئيبة دخلَت أمّها إلى غرفتها فوجدتها ممددةً على الأرض بلا حراك، صرخت الأمّ واجتمعَ النَّاس، ولكن بعدَ فواتِ الأوان، لقد انتحرت وردة المسكينة وآثرت الموتَ على أن تحترقَ بنيرانِ الفراق عن حبيبها كلّ يوم.

وسطَ ذهول الجّميع تزاحمت الأفكار في رؤوسهم وكادَ النَّدم يودي بحياتهم، فأمّها كانت تفكّر بأنّها لو استمعت لابنتها وحاورتها لما وصلوا إلى هذه النّهاية المؤلمة.

وكذلكَ حسَن كانَ يفكّرُ بأنّ نتيجةَ حِرمان وردة من حبيبها كانت أكبرَ ممَّا كانَ يتوقّعه الجّميع ،وتحسّرَ لأنّهُ لم يوافق على تزويجها له وتجاهل كل ماقيل ….

بعدَ مراسم الدّفن مرَت الأيّام الأولى ثقيلةً على العائلة ثِقل الزّمن الذي يمرّ على قلب سجين مظلوم، بعدَ مرورِ عدّة أيّام بدأت ثرثرة النّاس الفارغين الذينَ بإمكانهم أن يملؤوا وقتهم كلّه بما لايخصّهم ولايعنيهم البتّة، وكانَ مُجمل ما تداولوه من كلام: هوَ أنّ وردة لم تنتحر إلاّ لأنّها ارتكبت خطأً فادحاً يمسّ الشّرف، لذلكَ حسبَ زعمهم آثرت الموت على العار، وضجّ الخبرُ ضجيجَ الأجراس.

ولمّا وصلَ الخّبر إلى حسَن أصابته صدمة كبيرة لأنّهُ يعلمُ تماماً بأنّ كلَّ ما يقالُ عن أخته ليسَ صحيحاً، وأنّ بريقَ عينيها اللتين كانتا مملوءتان حُباً وطهراً يؤكّدُ بأنّ هذا الكَم الهائل منَ الحُبّ قد يودي بفتاة قليلة التّجربة في الحياة إلى ميتةٍ كهذهِ.

وفجأةً شعرَ بتقزّزٍ كبير من كلامهم،  وفكّر مستنكراً: يا للقسوة حَرَمت أختي من حبّها ومن حياتها بسبب كلام النّاس، وقَضوا أوقات تسليَتهم بأخبارها وهيَ حيّة، وحتّى بعد موتها لم يرحموها من ألسنتهم ….

ثمّ خلصَ إلى نتيجةٍ: هكذا همُ البشر لا رحمةَ في قلوبهم على حيٍّ  ولا على ميّت المهم لديهم هوَ الكلام وفقط الكلام.

تلاشت من قلب حسن كلّ الحسابات التي كانَ يحسِبها للناس وذهبت كل العظمة التي كان يعظّمهم إيّاها مهبّ الريح،و نشأ في داخله كره شديد تجاه الغوغائيين والمتشدّقين، وشعرَ بأنّه كانَ هو وألسنة الناس شركاء في جريمة موت أخته، فلو أنّهم تركوه يفكّر وحدَه دونَ أن يشوّشوا عليه تفكيره لربما كانَ وافقَ على تزويج أخته ولما حدثَ كل ما كان.

بدأت الكآبة تسيطر على نفسهِ، وأصبحَ لا يحبّ الخروج من المنزل إلاّ للضرورة.

بعدَ مدّةٍ وجيزة قرّرَ مغادرةَ القرية والعيش في المدينة، لعلّ زحمة المدينة تتمكّن من أن تنسيهُ آلامهُ.

انتقلت العائلة إلى المدينة، وكانَ حسن كثير الشّرود، ولكنه مع مرور الوقت وبسبب مشاغل الحياة هدأت نفسه

قليلاً، واصبحَ  إنساناً  آخر لا يرضى بأن يصنع قراراً يناسب الآخرين دونَ  أن يناسبه.

لذلك قرّرَ بأن تكونَ قراراته منطقيّة أولاً  وأخيراً مهما ثرثَر من حوله الثرثارون.

عائشة أحمد البراقي

ولأنّ قصص الحياة لا تنتهي …. يتبع  بإذن الله بقصة واقعية حدثت بالفعل مع ابنة حسن الوسطى واسمها منى عنوان القصّة ( حلم منى الضائع ).