قصة ( حياة مريم بين الريف والمدينة ):

في أعالي الجبال اختبأت إحدى القرى الصغيرة الجميلة كانت تشبهُ فراشةً صغيرة في كونٍ واسع كان يدورُ في تلكَ القرية ما يدورُ في أيّ مكان آخر من مواطن البشر، عانت العائلات من الفقر بسبب ظروف القرية فقد كانت شديدة البرودة في الشتاء لدرجة أنّ الماء يتجمّد في الأنابيب والخزانات ومنها ما ينفجر ويتلَف شتاءً ليعود الفلاح  المسكين صيفاً فيشتري أنابيب جديدة وخزان مياه جديد، ويمضي وقته في الصّيف بين تنظيف الأرض من الحجارة وزراعتها وتنظيف الزرع من الأعشاب الضّارة ……….. فلا يكاد ينقضي فصلُ الصَّيفِ حتى تعلو وجوه الناس سُمرة داكنة من فعل الشمس الحارقة التي رافقتهم طوال فترة عملهم في حقولهم. و من بين  تلكَ العائلات كانت عائلة مريم.

ومريم كانت فتاةً تعانق ربيع أيّامها بفرح وعيناها البريئتان لم تكونا تعلمان بما يخبؤهُ لها الزمان، كان أهلها يفكّرون ملياً بمصدر رزقٍ يحميهم من لسعاتِ الفقر القارصة ……

و في يومٍ من الأيام قررَ أبوها إرسالها إلى المدينة أسوةً بغيرها من فتيات القرية من بنات العائلات الفقيرة، سافرَ أبو مريم مع ابنته إلى المدينة وزارَ أحد أصدقائه المقيمين في المدينة وسألهُ إن كانَ يعرفُ عائلةً محترمةً لتبقى ابنته لديهم وتعمل على خدمتهم؛ فأجابه الرجل بأنّه يعرف عائلةً ذات سمعة جيّدة قد غادرتهم الخادمة التي كانت لديهم، فسألهم إن كانوا بحاجةٍ إلى فتاةٍ تخدِمهم، فأجابتهُ المرأة على الفور نعم وطلبت منه أن يريها الفتاة فرافقَ الرَّجل أبا  مريم ومريم إلى منزل العائلة.

كانت مريم تشعر بالارتباك والخوف من المجهول الذي ينتظرها، وشعرت بأنّ المدينة كبيرة كثيراً ولا يمكن الإلمام بحدودها كالقرية. ولكنّها لم تكن لتجرؤ على أن تتفوّه بأية كلمة تناقض آراء أبيها ….

ولمّا وصلوا استقبلتهم سيدة في العقد الرابع  من عمرها تقريباً تبدو في عينيها علامات الرأفة والرحمة. اطمأنت مريم قليلاً للوضع تحادثوا قليلاً واتفقوا على الأجر وتركَ أبو مريم ابنتهُ لدى العائلة وغادرَ برفقة صديقه بعد أن ودّعَ ابنته وطلب منها أن تكون مطيعةً وأن تهتمّ بنفسها.

قالت لها صاحبة البيت أنا اسمي ناهد وبإمكانك مناداتي ( سيدتي ) وطلبت منها أن تدخل للاستحمام و أعطتها ملابس جديدة جميلة تختلف كليّاً عمّا كانت ترتديه، ارتدت مريم ملابسها الجديدة بعد أن استحمّت وقامت بتصفيف شعرها وشعرت بأنّها تخلّصت من أدران الفقر والجهل وبدأت تتعرف على أفراد البيت .

السيدة ناهد لديها ابنتين قريبتين من عمر مريم وهما سوسن ومرام ، والأب كان رجلاً حكيماً يعمل بإخلاص ولا يكثر من الكلام إلاّ للضرورة واسمه أمجد كان في إحدى الغرف رجلٌ مسن يتمدد على  سريره طوال الوقت وهو أبو أمجد.

قالت لها السيدة ناهد أنا بحاجة لمن يساعني فأعباء البيت كثيرة ولدينا في البييت رجل عجوز بحاجةٍ إلى الرعاية لذلك أتمنّى منك أن تتعلمي بسرعة ما هو المطلوب منك.

تآلفت مريم مع العائلة بسرعة، وكانت تعملُ بخفّةٍ واتقان وسرعة كل هذا جعل السيّدة ناهد تفرح في قرارة نفسها وتُعامل مريم معاملة قريبة لمعاملة الأم لابنتها كانت الفتاتان الصغيرتان سعيدتان لوجود مريم في منزلهم لأنهم رأوا فيها سحرَ البساطة والعفوية فهيَ فتاةٌ قرويةٌ لا تتقن التَّصنع الذي تتعلَّمه بنات المدن.

عندما كانت الفتاتان تدرسان كانت مريم تنصتُ وتركّزُ انتباهها إلى ما تسمعه من عِلم وهي تتابع أعمال المَنزل مع السيّدة ناهد وكانت تشعر بتطورٍ سريع يعتريها على جميع المستويات إتقان الأعمال، والعلم والتعامل .. عندما كانت تنتهي كانت تدخل إلى غرفة الجد أبي أمجد فتلقي عليه التحية والابتسامة تعلو وجهها فتجلس على كرسيٍ بجانب سريره وتحاوره وتستمع إلى حديثه وتُعطيه الدواء في الوقت المحدّد وتسقيه الماء وتطعمه الطعام بيدها.

وأصبحتْ مع الوقت تنظّم أمورها أكثر فتعطي كلّ من في البيت جزءاً من وقتها واهتمامها حتى أصبح لها مكانة كبيرة في قلوب جميع أفراد الأسرة.

كان أبوها ينزل إلى المدينة معَ بداية كلّ شهر فيطمئن على ابنته ويقبض أجرها ويعود أدراجه إلى القرية، لم يعد قدومه وذهابه يعني الكثير لمريم حيث أنها وجدت ملاذاً آمناً من الفقر والجهل والإهمال لدى تلك الأسرة.

ومضت السنواتُ سريعة على هذا الحال، كانت مريم في كلّ أسبوع تذهبُ لشراء الخُبز …. وفي أوقات الفراغ كانت تذهب مع الفتاتين إلى الحديقة للتنزّه، وهكذا أمضت حياةً سعيدةً بين جهدٍ وفرحٍ ومرح، كانت أمها وإخوتها يقومون بزيارتها كلما اشتاقوا لها.

في أحد الأيام اشترت مريم الخّبز ومضت في طريقها، وعندما كانت تريد تجاوز الشارع مرّ باص كبير مسرعاً فصدمها وقذفَ بها إلى الطرف الآخر من الشارع، أُصيبت مريم بالإغماء فقام الناس بنقلها إلى المشفى سريعاً وقاموا بإخبار السيّدة ناهد فأسرعت إلى المشفى، وبعد معاينتها لم تكن حالتها خطيرة فقد أصيبت بجروحٍ وخدوشٍ بسيطة؛ خرجت من المشفى وعادت إلى البيت، تعاطف معها الجميع وحزنوا عليها كثيراً وطلبت منها السيدة ناهد ألاّ تعمل في البيت حتى تتحسّن وتُشفى تماماً.

ولأنّ الأخبار السيّئة تصلُ بسرعةٍ أكبر بكثير من الأخبار الجيّدة  وصلَ الخبرُ إلى أهلها في القرية، جزع أهلها عليها كثيراً وطلبت أمها من والدها الذهاب إلى المدينة وإحضارها فلقد عانت كثيراً في سبيل إسعاد عائلتها، سارع الأب إلى المدينة وتوجّهَ إلى مكان ابنته ولمّا رأتهُ السيّدة ناهد استغربَت من مجيئهِ المبكّر فلم يكن الشّهر قد انقضى بعد،  سألها عن مريم وكيفَ أصبح وضعها الصحّي فطمأنتهُ وأخبرته بأنّه حادثٌ بسيط وأنها لم اصب بأيّ مكروه دخلَ إلى الغرفة التي تجلس فيها مريم وعانقَ ابنته وقال لها علينا العودة إلى القرية يابنتي كفاكِ ألماً وشقاءً.

تفطّر قلبُ مريم لأنها لا تريد الذهاب، وسارعت السيّدة ناهد إلى محاولة إقناعه قائلة بأنّ ما جرى لمريم قد يحدث لها حتى في قريتها وتابعت بالكثير من  جمل الإقناع

ولكن بلا جدوى ……. وكمحاولة إقناعٍ يائسة أخيرة قالت له عندما أتت مريم إلينا كانت سمراء البشرة شعرها غير مرتّب وملابسها ممزّقة ورديئة،  أمّا الآن أنظر إليها وجهها ناصع البياض وملابسها جميلة وشعرها حريريٌّ، إنَّها جميلة وأنيقة لدرجة أنكَ لا تستطيع أن تميّزها عن بناتي صَدَمت تلك الكلمات أبو مريم فما كان منه إلاّ أن أخرج من كيسٍ كانَ يحمله شروالاً وكنزة له كان قد أحضرهما كبديل عن ملابسه. وصرخ بابنته قومي واخلعي ملابسك والبسي هذه الملابس، إنَّ السيّدة ناهد تظنّ نفسها قد اشترتنا بهذه الملابس …..

خافت مريم وأسرعت لتغيير ملابسها وارتدت بالفعل شروال ابيها وكنزته وقام أبوها بربط الشروال بحزام أخرجه من الكيس الذي كان يحمله، صُدمت السيّدة ناهد مما يجري وقالت محاولةً التَّبرير: ( لا أقصد ما فهمتَهُ يا سيّد أبو مريم، ليسَ هدفي من الكَلام أن أُشعرك بالنقص أو أُمننكم فمريم مثل ابنتي كل ما أردت قوله هو أنَّها بخير عندنا وحسب.

قطبَ أبو مريم جبينه وردّ بعنف لا داعي لأيّ جدال، أيقنت السيّدة ناهد بأنّه لا جدوى من الكلام معه.

طلبت مريم من أبيها أن يسمحَ لها بان تودّع أفراد أسرتها فوافقَ ممتعِضاً، دخلت مريم إلى غُرفة الجدّ أبي أمجد فوجدت دموعه تسيلُ على خدّيه تكادُ لاتتوقف، فلقد كانَ يسمع كل ما يدور من كلام وأيقنَ بأنّ مريم ذاهبة لا محال، واختصرَ الكلام قائلاً لقد كنت تشعرينني بأنني ما زلتُ حيّاً…..   ودَّعته مريم مرغمةً وخرجت من غرفته تخنقها الدموع، ودَّعت السيّدة ناهد وودعت سوسن ومرام وكان السيّد أمجد لم يزل في عمله بعد، ولم يتسنَّ لها أن تودّعه. خرجت مريم برفقة  أبيها هائمةً على وجهها وكانت تشعرُ بالإحراج من ملابِسها وأيقنت بأنّ حياة الشَّقاء تنتظرها من جديد.

عائشة أحمد البراقي