إنّ فنّ الألغاز لم يكن جديداً ولم يُبتدع في العصر العثماني، بل إنّه وجدَ منذ العصر الجّاهلي، ولكنّهُ نما وازدهرَ في العصر العثماني:

*** ومما وردَ من ألغاز في العصر الجّاهلي:

وردَ  في كتاب ( بدائع البدائه ) للأزدي، أنّ امرأ القيس لقيَ عبيد بن الابرص فسأله:

ما حبّةٌ ميتةٌ أحيت بميتتها                 درداء ما أنبتت سناً وأضراسا

فأجابه عبيد بن الأبرص:

تلكَ الشّعيرةُ تُسقى في سنابلها        فأخرجت بعدَ طول المكثِ أكداسا

فهذا من قبيل الألغاز، وهوَ دليلٌ على وجود الألغاز منذُ العصرِ الجَّاهلي.

*** في العصر العبّاسي:

يقول أبو العلاء المعرّي:

إذا صدقَ الجّدُّ افترى العمّ للفتى        مكارم لا تخفى وإن كذبَ الخالُ

__ فهوَ لم يُرد من قوله ( الجَّد ) أبا الأم أو أبا الأب بل قصدَ ( الحَظ )

__ ولم يقصد ب ( العم ) أخا الأب، بل قصدَ (عامّةَ النّاس ).

__ ولم يقصد ب ( الخال ) أخا الأم، بل قصدَ به ( الظّن ).

فهذا من الألغاز والأحاجي .

*** في العصر المملوكي: اتّسعت هذه الظّاهرة وانتشرت حتى إنّ الشّعراء في هذا العصر أفردوا في دواوينهم أبواباً للألغاز، يقول أحد شُعراء العصر المملوكي:

وذي خضوعٍ راكعٌ ساجدٌ                   ودمعه من جفنه جاري

مواظبُ الخمس لأوقاتها                 منقطعٌ في خدمةِ الباري

المقصود به ( القلم )، فهوَ يخضعُ في يدِ صاحبهِ، ويبقى رأسهُ منكّساً كالسّاجد، ودمعهُ هوَ الحبر، والخمس هيَ الأصابع الخمس، والباري هوَ الذي يَبري القلم، أي يصنعهُ ويحسّنه.

وقالَ شاعرٌ آخر:

وذي أُذنٍ بــــــــــــــــــــــلا سمعٍ               لهُ قلبٌ بـــــلا قلبٍ

إذا استولى على حبٍّ                       فقل ما شئتَ في الصبّ

قصدَ بذلكَ (الجرّة )، فجرّة الماء لها أذنٌ لكنّها لا تسمع بها، ولها قلبٌ وهوَ جوفها.

وقصدَ (بالصبّ ) صب الماء منَ الجّرّة، لا العاشق.

وقبلَ أنْ يطلقَ عليها تسمية الألغاز، كانت تُسمّى ( المَلاحن ).

فابن دريد ألّفَ كتاباً خاصّاً سمّاهُ ( المَلاحن ) ذكرَ فيه ألفاظاً تُستعملُ من باب اللّحن وفيها لغز كقوله:

رأيتهُ: لا يقصدُ بها شاهدته، إنّما قصدَ: ضربتهُ على رئته

معدته: أي ضربتهُ على معدته

كلمته: أي جرحته

إذن: هذه الظّاهرة لم تكن جديدةً بل ذاعت وانتشرت في هذا العصر .

تعريف الألغاز: جمع مفرده لغز، وأصلهُ الحُفرة الملتوية يحفرها اليربوع.

ثمّ استعملوه في الإتيان بالعبارة يدلّ ظاهرها على غير الموصوف بها، ويدلّ باطنها عليه.

وهو لونٌ من أدب التّسلية ورياضة العَّقل وامتحان الذّكاء الذي راجَ في مختلف العصور.

قالَ ابن رشيق في العمدة: إنّ من أخفى الإشارات وأبعدها اللّغز، وهوَ أنْ يكون للكلام ظاهرٌ عجيب لا يمكن،  وباطنٌ ممكن غير عجيب )

موضوعات الألغاز: اختلفت موضوعات الألغاز، وتلوّنت بثقافة قائلها، فمنها ما هو فقهي فيه نكتة شرعيّة،  ومنها ما هو علمي وذهني، وآخر للتسلية.

أنواع الألغاز:

من أنواع الألغاز والأحاجي: الكلام المركّب:

ومثاله: كلمة ( سلسبيل ) لها معنى آخر وهوَ ( سل سبيلاً ) ، أي أطلب طريقاً.

ومثاله أيضاً: كلمة (براغيث ) لها معنى غير المعنى المعروف ( البرا: معناها التراب ، غيث : منَ الغيث، وهو المطر )

فيكون المعنى ( تراب مُطرَ ) يعني نزلت المطر عليه.

وقد فرّقَ الباحثون بينَ نوعين منَ الألغاز:

1__ اللّغز المعنوي: هوَ ما يُشار فيهِ إلى الموصوف بذكر كلمات تتضمّن صفاته.

ومثاله: قول الشّاعر ( أبي الوفاء العريضي ) وهو منَ العصر العُثماني:

يا مفرداً فيما جمع                     وكاملاً فيما ابتدع

بيّنْ لنا أحجية                           حاصِلها أُسكت رجع

قصدَ  به ( صهباء ) ، لأنّ أسكت من معانيها ( صه )

ورجعَ من معانيها ( باءَ ) والصّهباء هيَ  الخمر )

2 _ اللُّغز اللَّفظي: هو ما يُشار فيه إلى الموصوف بذكرِ كلماتِ أو بعضِ حروفه

تضمناً خفيفاً ، ويكون ذلكَ بالتَّصحيف أو القلب أو الحذف أو التَّبديل، وما شابه ذلك

ومثاله: قول الشّاعر العُثماني علي بن الحصكفي الحلبي:

1_ اسم الذي لغزته         يطفي شرار اللّهب

2_ مقلوبه مصحّفاً          وجدته في حلب

قصدَ ( بلح ) قلبنا كلمة حلب فصارت ( بلح )

ومثاله أيضاً:

1_ إنّ من قد هويته            محنتي في وقوفه

2_ فإذا زالَ ربعه               زالَ باقي حروفه

يقصد ( غزال ) فهوَ مكوّن من أربعة حروف، إذا زال ربعه، أي حرف واحد منه، بقي ( زالَ ).