اسمي خديجة ثالث شيء تعرفت عليه بعد أمي وأبي منذ ولادتي هو معنى الفقر ، أسرتي مؤلفة من أبي وأمي وثلاثة إخوة شبان وأختان ، ومجموعنا كأولاد ستّة ، لي مع اسمي حكاية وهي أنّ خديجة كان اسم أختي

ولكنها توفيت قبل ولادتي بثلاث سنوات ، وأهلي لم يوفوها في السجلات المدنيّة بسبب الإهمال ، وعندما

ولدت كان اسمي جاهزا” وحتى أنني مسجّلة في دفتر العائلة ولدى الدولة في السجلاّت وعندما ولدت كان عمري الفعلي يوما”واحدا” ولكن في سجلاّت الدّولة كان عمري ثلاث سنوات ، ذلك لأنّ أهلي اعتبروني مكان أختي المتوفاة .

كان الفقر رفيقا” لنا في صباحاتنا ومساءاتنا ،في يقظتنا وفي أحلامنا ……

أبي كان قليل الحيلة ، وكان شعوره بعزّة النفس يحول دائما” بينه وبين’ لقمة عيشه ،فهو حسب معتقداته ليس

مضطرا” لأن يجامل أحدا” على حساب كرامته ، وهكذا كانت تختلط عليه الأمور ، فتمر أيام كثيرة ولاينتج بها شيئا” من المال كان كل ما يملكه في هذه الحياة هو قطعة أرض جرداء وبيت بسيط جدا” ورثهما عن أهله ،

كانت أمي امرأة”طيبة ،ملتزمة بالعبادة تتوكّل على الله في كل شيء ، وقلّما كانت تتذمّر من وضع أبي وقلّة حيلته فقد كانت تحاول تسيير الأمور وتدبيرها .

كان أبي يحلم بأن يمتكلك سيارة فنصحه أحد أصدقائه بأن يستدين بالفائدة من سيدة كانت تتعامل بالربا

ولما ضاقت الحياة علينا كثيرا” ذهب أبي واستدان بالفائدة واشترى سيّارة” وعاد إلى البيت بسيّارته الجديدة ،فعل كل هذا دون أن يستشير أحدا” منّا، فرح’ كلُّ من في البيت ما عدا أمي شعرت بالقلق لأنها تعرف مدى تقصير والدي في العمل

وكانت تقول الفقر يصبّرنا الله عليه ، ولكنّ الدّين لن يرحمنا النّاس به ، غضب والدي لأنّ أمّي لم تفرح وقال لها

استكثرت عليّ السعادة وأن أكون سيّد نفسي في عملي، آثرت أمي إختصار الكلام والابتعاد عن الجدال

واكتفت بأن دعت لوالدي بالتوفيق .

بدأ أبي عمله على السيّارة .

بصراحة لم ألحظ يوما” بأنّ وجود السيّارة قد غيّر’ شيئا” أو خفّف شيئا” من معاناتنا المادية فقد كان عليه أن يوفي أقساط الدّين الذي استدانه بالفائدة .

كان الفقر شديدا” ولم يكن التعليم إلزاميا” فخرجت أختاي الكبيرتان من المدرسة لعدم قدرة أهلي على شراء

حاجياتهم المدرسيّة، كانت أختي فاطمة حزينة” لأنّها كانت تحبّ العلم كثيرا” واضطرت لترك المدرسة مرغمة” ، وراحت

تقضي وقتها في معاونة أمي في تنظيف البيت وتربيتنا أنا و إخوتي ،

أمّا عن دراستي في المدرسة فقد كان عمري حوالي الأربع سنوات فقط عندما ذهبت أختي فاطمة إلى المدرسة

لتسجلني في الصفّ الأوّل ، والسبب هو أنني مسجلة على اسم أختي المتوفاة ، والتي لو كانت على قيد الحياة

لحان موعد دخولها إلى المدرسة .

المهم أصبحتُ تلميذة” في الصفّ الأوّل شئت أم أبيت ، وبدأت أتعلّم في المدرسة ، لم نكن نملك المال لنشتري حتى مريولا” للمدرسة ، و في كل فترة كانوا في المدرسة يأنبونني ويطلبون مني شراء مريول ( لباس مدرسة ) ومضت الأيام دون أن أشتريه .

كانت أبسط تفاصيل الحياة أحلاما” وأمنيات بالنسبة لنا، كانت معلمتي تسألني ماذا يعمل والدك ؟

فأجيبها بأنّه يعمل سائق فلا تقدّم لي المساعدات المخصصة للمحتاجين في المدرسة ، وهم لايعلمون حقيقة الأمر

بأنّ ثمن السيارة كان دينا” ، وأنّ رزق والدي قليل وحالتنا المادية مترديّة ، وتوالت سنوات الدراسة بين مواقف محرجة وتدبير,, للأمور .

ومن بين المواقف المحرجة التي تعرضت لها في المدرسة بسبب الفقر أن معلمة الخياطة طلبت منا مرة”إحضار قطعة

قماش بيضاء وخيطان من الدكان لنتعلّم الخياطة لم يكن لدي أي مال لشراء ما طُلب’ مني ، فعدت إلى البيت

حزينة ولم أتجرأ أن أطلب من والدي النقود لكي لا يخرجني من المدرسة ، وعندما رأتني أختي فاطمة سألتني

عن سبب حزني ، فأخبرتها ، فقالت لي لا تقلقي لديّ قطعة قماش بيضاء وخيطان سوف أعطيك إيّاهم وتنحلّ المشكلة ، سررت كثيرا” ، وقامت فاطمة بغسل قطعة القماش وكيّها وطوتها وأعطتني بكرة خيطان صغيرة

من البيت ، وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وعندما وضعنا أنا وبقية الطلاّب ما طلب’ منا إحضاره ، كان الفرق

واضحا” بين ما أحضرته أنا وما أحضروه هم ، فقد كانت الأقمشة التي أحضروها ناصعة البياض وجميلة ، أما القماش الذي أحضرته أنا فقد كان بياضه مائلا” إلى الصفار ويوحي بأنّ القماش قديم ، ومع كلّ ذلك سارت الأمور على ما يرام .

موقفٌ محرجٌ آخر لا أنساه ،كانت معلّمة الرياضة تطلب منّا لباس خاص للرياضة ، و في كلّ حصة رياضة كانت المعلّمة

تضربني بالمسطرة على يدي وتطلب مني العودة إلى البيت وشراء ملابس للرياضة بمواصفات,, محددة ، وكنت

أعود إلى البيت وأنا أبكي فتسألني فاطمة عن سبب بكائي فأخبرها فتقف محتارة ليس بيدها حيلة وتصمت

قليلا” ثمّ تقول لي بعد قليل هيّا إذهبي إلى المدرسة حصة الرياضة انتهت الآن ، فأرفض الذهاب فتدفع بي

إلى باب الدار وتخرجني منه وتغلق الباب بوجهي فأقف في الشارع باكية لا أعرف ما أفعله وهي من خلف

الباب تقول لي إذهبي هيا لقد انتهت حصّة الرياضة ، وأحاول جاهدة” أن أقنعها بأن تدخلني إلى البيت ، فترفض

بحزم ومن شدّة برودة الجو لم يكن أمامي خيار آخر سوى الذهاب إلى المدرسة ، تكرّر هذا الموقف

عشرات المرات .

وأذكر يوما” أنني كنت ألعب في الشارع فنادتني إحدى قريباتنا وكنت وقتها لا أزال في المرحلة الابتدائيّة وعندما ركضتّ إليها بدأت تقيس طولي بالشبر بيدها ، دون أن تقول لي أيّة كلمة ، ثمّ ذهبت ، وبعد حوالي

ثلاثة أيام جاءت لزيارتنا وقد أحضرت لي مريولا” جديدا” أخاطته لي بنفسها ألبستني إيّاه فطار قلبي فرحا” به

وشكرتها أمّي كثيرا” على كرمها وذوقها ، وهكذا انحلّت عقدة المريول .

أمّا عن الكتب فكنت أستعيرها من أبناء أقاربنا الذين نجحوا إلى الصفّ الأعلى ، وأحيانا” كانت تمضي كل السنة

وينقصني بعض الكتب ، وعن كيفيّة دراستي للمادّة التي كنت لا أملك كتابا” لها ، فقد كنت أنتبه بكلّ أحاسيسي

إلى المعلّمة أثناء إعطاء الدرس لأنني لا أملك مصدرا” آخرا” لفهم تلك المادة سوى من شرح المعلّمة ،

وفي أيّام الامتحانات كنت أذهب لأدرس مع إحدى صديقاتي وأطلب منها أن تدرس بصوت,, عال,, لأسمع’

وأحفظ’ معها ، مضت سنوات كثيرة من مرحلتي الدراسيّة بتيسير,, ورأفة,, من الله تعالى ……

في أحد الأيام خرج أبي إلى العمل على السيارة وعاد سريعا” إلى البيت على غير العادة ، قلقت أمي كثيرا”

وسألته عن سبب عودته بهذه السرعة ، كانت متأكدة من أن الإجابة ستقسم ظهرها ، لأنّ ملامح أبي كانت متغيرة ويبدو عليه الارتباك والتوتر .

أجابها : يا أمّ محمود لقد صدمتُ بسيّارتي رجلا” ولقد مات من فوره ، وأنا ذاهب إلى المغفر لأسلّم

نفسي .

بدأت أمي تبكي وتقول هذا ما كنت أخشاه ……. لم تكن تنقصنا تلك التعاسة …

قال لها تصبّري بالله فقد حدث ما حدث ، اعتني بنفسك وبالأولاد قال هذا الكلام وخرج مسرعا” ولم يعد إلا بعد

بضعة شهور ، بعد أن قام مجموعة من أهل الخير في البلدة بجمع المال ودفع الفدية لأهل المتوفى لكي يسقطوا

حقّهم عن أبي .

الأشهر التي غاب فيها أبي عن البيت كانت موحشة وازدادت الأيام بغيابه فقرا” وتعاسة” ، وبعد عدّة أيام من سجنه

لم يكن لنا معينا” إلاّ الله ، تحدثت أمي مع أختي فاطمة عن إمكانية العثور على مورد رزق نعيش منه ريثما أفرج عن والدي فاقترحت أمي أن نبني تنورا” للخبز في الفسحة التي أمام البيت .

ذهبت أمي إلى منزل جارتنا أم سعيد وطلبت منها أن تأتي وتعمّر التنور لنا فوافقت أم سعيد وحاولوا تدبير الأمور

وكانت مواد البناء بسيطة” جدا” وهي عبارة عن الماء و تراب أزرق يسمّونه في بلدتنتا ( تراب سم الموت ) وهو

تراب أزرق اللون إذا خلط بالماء وجفّ يتحوّل إلى مادّة صلبة جدا” تشبه الإسمنت .

المهم أذكر تماما” منظر أم سعيد وهي تخلط التراب مع الماء وتبني التنّور ، فقد كانت تعمّر طبقة” دائريّة وتنتظرها

حتى تجف ثمّ تبني فوقها طبقة” ثانيّة وهكذا …….

أصبح لدينا تنّور للخبز ، وأصبح هذا التنور مصدر رزقنا ، فقد أصبحت النّسوة في البلدة يجتمعن عندنا ليخبزوا الخبز’

في تنورنا ، وأحيانا” كنّ’ يعطين’ لأمّي العجين لتخبزه لهم ثمّ يعطينها أجرا” مقابل ذلك ،

وهكذا ومع الوقت أصبحت البلدة كلها تعرفنا ، وتخبز عندنا ، واستطعنا بهذه الطريقة أن نحصل على قوت يومنا

مضت عدّة شهور وخرج أبي من السّجن غمرنا الفرح بخروجه .

توالت الأيام وبدأ أبي يسدّد ديونه فقد باع السّيارة و تراكم عليه مبلغ كبير من المال بسبب تراكم الفائدة

ولم يكن أمامه حل سوى أن يبيع الأرض التي كان يملكها ، بعد أن كان قد زرعها وكنّا نساعده في العناية

في الأرض ، ويطول الحديث كثيرا” إذا تكلّمنا عن الأرض وكيف كانت جرداء ، وكيف أصبحت بجهدنا جنّة على

الأرض .

رغم كلّ هذا اضطرّ أبي للتخلّي عنها لوفاء ديونه ، وعرضها للبيع ، حاول بعض النّاس استغلال حاجته فقدموا

له ثمناً بخساً فلا يقبل أن يبيعها وذلك لأنّ المبلغ الذي يُعرض عليه لا يغطي حتى نصفَ الدّيون المترتّبة عليه

وفي أحد الأيّام كنت أنا وأمي نتناول العشاء حين طُرق باب الدّار ففتحت أمي الباب فإذا برجل غريب عن البلدة

يسألها إن كان أبي يريد بيعَ الأرض، فأجابته بأنها لا تعلم حول هذا الأمر شيئاً……

لا أدري ما الذي دفع امي لقول ذلك، ألأنّها لا تريد بيع الأرض في قرارة نفسها، أم أنّها تحاول إظهار عدم الإكتراث

لكي لا يقوم هذا الغريب باستغلالهم إن شعرَ بحاجتهم للمال ….

غادر الرجل وعاد في اليوم الثاتي، وكان أبي في المنزل هذه المرّة فسأله عن السعر الذي يطلبه لبيع أرضه فأجابه أبي أريد تسعمائة، فأجابه الرجل سأعطيك تسعمائة وخمسين وكذلك لن أحرمك من المحصول

فلك نصف محصول هذه السنة …….

وهكذا باع أبي الأرض مرغماً وسدّد ما عليه من ديون.

أمّا عني وعن دراستي فقد أنهيت مرحلة التعليم الثانوية ودرست في معهد تأهيل المعلّمين، وأصبحت مدرّسة

بعد صبرٍ وفقرٍوعناء.

عائشة أحمد البراقي