منذ بضعةِ سنوات كانت عائلة حسن تعيشُ في المدينة بعد أن انتقلوا من قريتهم وكانت حياتهم روتينية هادئة

لا يعكّرها شيء، زوّج حسن ابنتيه الكبيرتين لشابين من قريتهم، وبقيت ابنتاه الصَّغيرتان تعيشان معه ومع زوجته.

وبدأت السّنوات تتوالى، تفوّقت البنتان في المدرسة كثيراً فلمعَ أملٌ جديدٌ في قلب حسن وهو أن تحصل الفتاتان

على شهادات عليا، كانَ حسن موظّف وكان يؤمّل نفسه بأن تتخرّج ابنتاه من الجامعة وتتوظّفان معه.

سيطرَ هذا الحلم على عقله وهكذا جرت الأيّام مسرعة نجحت منى بعلامات عاليةٍ في الشهادة الثَّانوية، وسجَّلت حسبَ رغبة أبيها في كليَّة الهندسة، كانت فرحة حسن لاتُقدَّر بثمن.

بدأت منى تُداوم في الجَّامعة وتدرس بجِد، ومع الوقت بدأت تشعر بالفرق في المستوى المادي بينها وبين صديقاتها في الجامعة أحبَّت أن تعمل لتستطيع شراء الملابس و مجاراة صديقاتها نوعاً ما في البذخِ والرَّفاهية عرضت فكرة ( أن تعمل بالإضافة إلى دراستها ) على والدها فرفضَ بشدّة وقالَ لها: لاتلتفتي يابنتي للأمور السَّطحية ولتعيشي حياتك حسب مستواكِ ومستوى أهلك، فلقد قسّمَ الله الأرزاق بين الناس بتفاوتٍ، فاقبلي بما قسمه الله لك ،وعندما تتَخرَّجين من الجّامعة ستعملين ويتحسن وضعك المادي.

وتابعَ قائلاً لا تستعجلي على رزقك يابنتي .

وافقت منى على رأي أبيها وتابعت الدراسة، رغمَ كُلِّ الصُّعوبات الماديّة،

ولكنّ الصَّبر على صعوبات الحياة يحتاج إلى عقلٍ راجح وزُهدٍ في مظاهرِ الدُّنيا البرّاقة …..

كان لدى منى صديقة قديمة منذ أيَّام الدراسة زارتها مرّة، وكان الحسدُ يأكلها من الدّاخل لأنّ منى متفوّقة وتدرسُ في الجَّامعة، وهي لم تُتابع تعليمها، لكنَّها أظهَرت لها الودّ والحُب وسأَلتها عن سبب تكدّرها فأخبرتها منى عن معاناتها بسبب فقر أهلها وضيق حالهم، ووقوعها في الحَيرة بين أنْ تعملَ بالإضافة إلى دراستها وبين أن تدرس وتعاني من الفقر والحاجة …..

فأخبرتها صديقتها بأنّها تعمل في مشغل خياطة وأنّ المرتّب هناك لا بأس به، وشجّعتها على العمل معها دون أن تخبرَ والدها بذلك لأنّه بالتأكيد سيرفض.

وافقت منى على الفكرة وبدأت بالتغيّب عن الجامعة والعمل في مشغل الخياطة، وباتت لا تذهب إلى الجامعة إلاّ نادراً، أصبحت تعود إلى البيت متعبةً من العمل ولم تَستطع الدّراسة لساعات طويلة، انتبهت أمُّها لهذا التغيّر الذي طرأ على ابنتها، وأصبحت تقرأ لها المعوذات وتقرأ سورة الفاتحة وتنفخ في وجه ابنتها لتُذهب عنها التعب والحُزن.

كانت منى ماتزال في السنة الثّالثة في الجامعة، وكان أبوها يُمازحها كلَّما رآها ويقول لها كيفَ حالك يا باش مهندسة، هيَّا متى سنفرح بتخرُّجك ….

وكانت ترتبك قليلاً وتحسّ بتأنيب الضَّمير، لأنَّها لا تهتم بدراستها كما يجب.

وهكذا بدأت علامات إهمالها لدراستها تظهر، فقد رسبت في السنة الثّالثة، ولكنَّها أَخفت أمر رسوبها عن أهلها فهم يظنون أنها في السنة الرّابعة، وكان التَّفاؤل يملأ قلبَ حسن كلّما تذكّرَ ابنته مهندسة المستقبل، وهو لا يدري ما يجري من سوءٍ في الخَفاء.

تراجع مستوى مُنى لدرجةٍ كبيرة ولم تعد قادرة على استيعاب الكَّم الهائل من المَّواد دون أن تحضر المحاضرات في الجَّامعة.

بدأتْ تشعرُ بالخوف والخطر، وبدأ القلق يسري في أوصالها، ولاتدري كيف ترمّم كلَّ هذا الخَلل ….

كانت محاطةً بأُسرةٍ لا تقدّم لها إلاّ القَليل من جميع النَّواحي، فأمُّها امرأة بسيطة لاتُحاور بناتها ولا تقدّر فارق العمر ولا اختلاف الأجيال وأرادت أن تربّي بناتها على الكبت والخَوف من كلّ شيء كما تربّت هيَ، وأخواتها المتزوّجات لكل منهنّ همومها وأعباءها، وأختها أمل كانت ما تزال في الثَّانوية ولاتدرك هموم الحياة بعد، وأبوها على الرّغم من طيبته، ومحاولته جاهداً إسعاد بناتِه إلاّ أنّه كانَ يغيبُ خارج البيت طويلاً ولا يُحاول تقصّي مشكلات أفراد عائلته.

لقد كانت منى تائهة في دهاليز الخوف التي دخلتها بإرادتها وغد’ت غير’ قادرة,, على الخروج منها ، توالت رسوباتها

واستنفذت الفرص في الجامعة ، ولكن الكارثة الكبرى أنها أخبرت أهلها بأنّها قد تخرّجت من الجامعة ، وأقامت حفلة”

بهذه المناسبة دعت عليها جاراتها وصديقاتها …

غمرت حسن سعادةٌ لا حدود لها، وبدأَ يسعى جاهداً لتوظيف منى وظيفةً حكوميّة معه في نفسِ المَكان

وطلبَ من مديرهِ أن يساعده في ذلك الأمر، فوافقَ وقالَ له فلتُحضر ابنتك الأوراق المطلوبة وتتقدَّم بطلبٍ للتوظيف.

فرحَ حسن كثيراً وعاد إلى بيته ليخبرَ زوجته وبناته بالخَبر السَّعيد، فرحت العائلة كثيراً، ولكن ازدادَ قلق منى وانتابها شعورٌ بالخوف، من أن يعرفَ أباها حقيقةَ الأمر وعدم تخرّجها وفشلها الذَّريع ….

و في أحد الأيّام طلبَ حسن من ابنته أن تذهبَ إلى الجّامعة وتجلِبَ شهادتها، وبدأَت مآسي منى تزداد يوماً بعدَ يوم، كانت تتهرّب من طلبِ أبيها في إحضار الشَّهادة متذرّعةً بحجج له شتّى…..

وعندما طالَ الأمر أكثرَ منَ اللاَّزم ، قالَ حسن لابنته: (غداً سنذهب أنا وأنتِ إلى الجَّامعة لنجلبَ الشّهادة، ارتبكت منى و لم يكن بوسعها إلاّ أن توافق.

في اليوم التالي استيقظت منى باكراً وغادرت البيت دونَ أن تخبرَ أحداً،

استيقظَ أهلها ولم يجدوها فاستغربَ الجّميع من تصرّفها وخروجها باكراً، وبدأ الخوف والقلق يتسرّب إلى قلبِ حسن، أيقنَ تماماً بأنّ وراءَ تصرّف ابنته هذا سبباً خطيراً…….

مرّ النَّهار بطيئاً جداً وهم ينتظرون عودةَ منى إلى البيت، علّها تُجيب عن استفساراتهم الكَثيرة ولكن دون جدوى…..

هبط اللّيل ثقيلاً شعرَ حسن بالخيبة والبُؤس، وتمنى لو أنّ ابنته تعود إلى البيت ولايريد من الدنيا أيَّ شيءٍ آخر.

لم تستطع العائلة النومَ في ذاكَ اليوم العصيب، فقد قضوا نهارهم في السُّؤال عن ابنتهم والبّحث عنها، وكانت الأفكار السيّئة لاتُفارق عقولهم طوالَ اللّيل حول ما حلّ بمنى ….

في اليوم الثَّاني اتصلت عمّة مُنى بأخيها حسن وأخبرته بأنّ ابنته عندها وانّها قد قضَت ليلتها في أحد الجَّوامع، ثمّ قَدِمت إلى بيت عمّتها في الصباح، صاحَ حسن من أعماق الأَلم الذي أصابه: (لماذا فعلت منى كلّ هذا ؟! ما الذي يجري معَها أخبريها بأنْ تعودَ إلى البَيت بسرعة، فأنا لم أعد أحتمل كلّ هذا القهر)

كان صوتُ حسن يخرجُ من سمَّاعة الهاتف فيطرق مسامعَ منى فيرتجف قلبها حزناً وألماً على أبيها وكانت شلالات دموعها لا تنقطع لحظةً.

هدّأَت الأُخت من روع أخيها حسن قليلاً وقالت لهُ سآتي أنا و منى اليوم .

بعد حوالي السّاعة قدمَت منى وعمَّتها إلى البيت، احتار الجَّميع كيفَ يستقبلونهم فقد اختلطت لديهم مشاعر

الغضب، والحيرة، والحزن، والفرح بعودة منى، وكانَ حسن متلهّفاً لمعرفة السَّبب وراءَ كلّ ما جرى.

لم يكن بوسعِ منى إلاّ  إخبارَ أبيها بالحقيقة كاملةً وسطَ دهشةِ وصدمة جميع الموجودين….

صُعق حسن وتزاحمت الأفكار برأسه تبادرَ إلى ذهنه أنّه أبٌ فاشلٌ عانت ابنته كلَّ هذه المعاناة وهو لا يدري بشيء سوى أنّه كانَ ينتظر تخرّجها، وامتلأ قلبه غيظاً منَ الفَقر الذي جعله يغيب عن البيت طويلاً لـتأمين قوتِ عائلته، والعديد من الأفكار المتدافعة داخل رأسه تذكّر أخته التي ماتت بسبب حماقته …..

كانت مُنى تنتظر العقاب بخوفٍ من أبيها وعليه بنفس الوقت.

كانت تنظر في عينيه والألم يعصِر قلبها، هطلت دموع حسن غزيرةً، ولم يكن لتلك الدموع سبب واحد بل آلاف الأسباب……..

انقضى ذاكَ اليوم الكئيب وبدأت مرحلة جديدة في حياة العائلة.

حاولوا كِتمان السِّر قدرَ المُستطاع ولكنَّه مع الوقت افتتضحَ الأمر وعرف كلُّ معارفهم وأقاربهم وجيرانهم ما الذي جرى.

وبعدَ ذلك بدأت طُويَت صفحة من صفحات حياة منى فهي لم تعد المُهندسة الموعودة بل أصبحت مجرّد عاملة في مشغل للخياطة، وبدأَ جسدها المعتدل يمتلئ شيئاً فشيئاً حتى أصبحت سمنتها مُفرطة كان الامتلاء الذي أصابَ وجهها قد أخفى الكثير من معالمه الجميلة.

اعتاد أفراد العائلة على الوَضع الجَّديد، و شعر حسن بأنّ هذا الدَّرس الذي لقَّنته إيَّاه الحَياة كانَ صعباً للغاية.

ولكنَّه قررَ ألاَّ يُرهق ابنته أكثر، فتناسى الموضوع…..

وفجأةً أُصيبتْ منى بمرضٍ في الرِّئة عانَت منه حوالي السَّنتين، وكانت تذهب إلى المشفى لتلقي العلاج، ولكنَّ الشُّعور بالذَّنب أرهقَ نفسيَّها وجَسدها، تدهورت أحوالها الصحيّة كثيراً وكانت تصرخ بأمّها كلما قرأت لها الفاتحة أو المعوّذات ونفخت في وجهها.

وفي أحد الأيام استييقظَ الجَّميع على صُراخ أمِّ منى، لقد كانت صرخةَ ثكلى…….

ماتت منى بعد عناء أصاب الجسد والرُّوح …………..

عائشة أحمد البراقي