في أحد الأحياء الشعبية كان عبد الحميد يعيش مع أمه وأبيه وجدته(والدة أبيه )  ، وأربع أخوات  كن’ جميعهن’أكبر منه سنا” .

كان’ لا  يحب الدراسة كثيرا” ، على عكس أخواته الأربعة ،  الأمر الذي آلم’ قلب’ أمه كثيرا” ولكنها بعد’طول عناء ومجاهدة لإقناعه في متابعة تعليمه تيقنت بأن’ الأمل من ذلك مفقود .

طلبت منه بعد أن فشل’ في تحصيل الشهادة الإعدادية بأن يذهب للعمل مع أخواله في البناء .

بعد فترة من العتابات والتهكمات من أهله

قرر أن يشق’طريقه في هذه الحياة ويعمل لكي يصبح

شخصا” منتجا” ، وأكثر جملة  أثارت عنده هذا القرار   قول أمه الدائم والمتكرر صباحا”ومساء” :(من’المعيب على رجل نبت’ شارباه أن يطلب مصروفه من الآخرين )

بدأ العمل مع أخواله بتأفف وملل ،أدرك أخواله أنه مازال حديث العهد في هذه الحياة فكانوا يتجاهلون تأففه عمدا”

بعد مضي حوالي شهر تقريبا”بدأ  ينهض من نومه باكرا” ويغادر إلى عمله بنشاط  .

بعد فترة بدأ الإبداع يظهر في عمله ،وراح يبتكر أفكارا” جديدة”  في البناء .

عاش’فترة”ذهبية من حياته ، و ادخر مبلغا” لا بأس’به

من النقود ، قررت أمه تزويجه وقالت له يا بني اظفر بذات الخلق ولا تركز اهتمامك على الجمال فجمال الوجه في المرأة ليس كافيا” ،وإنما شكل معتدل مترافق مع خلق حسن و التزام لهو’ أدوم لك ولأولادك مستقبلا” ، وكعادته رفض رأي’ أمه وعاندها

وقال’لها :  يا أمي جمال المرأة أولا”وثانيا” وثالثا”

كانت جدته تلقي على مسامعه الحكم القديمة دائما”

وأكثر حكمتين حفظهما  من جدته ، دون فهم

هما 🙁 لم تمت ولكن ألم تر’الذين’ ماتوا )

والحكمة الأخرى :  ( العناد كفر )

لم تفده تلك الكلمات بشيء ، وأصر على أن يختار بنفسه شريكة حياته ، فوافق أهله بعد أن استنفذوا كل ما لديهم من أساليب الإقناع .

بعد زواجه عاش فترة سلام وسعادة مع زوجته سارة .

وبعد سنتين رزق بصبي جميل أسمياه كرم ، فرحت  العائلة  به كثيرا” لأنه حسب رأيهم سيحمل اسم العائلة عندما يكبر ،كانت سارة متطلبة كثيرا”وفارغة لا هم’لها إلا مواكبة الموضة والأزياء والاستماع إلى الأغاني وارتياد المطاعم ……

أثقلت  كاهل زوجها كثيرا”بمتطلباتها  ، ولكنه كتم’أمر معاناته بينه وبين’ نفسه التي لطالما لامها وأنبها مرارا”على تسرعه واختياره الخاطئ وعدم استفادته من نصائح من هم على دراية بالحياة أكثر’ منه .

تتالت السنوات وأنجبا  بنتا”أسمياها مرح

وأمضى  حياته مع زوجته القاسية كقسوة رأسه العنيد  بين صبر وتذمر ومشقات كثيرة .

كان يمضي أغلب وقته في العمل ليتفادى شر’الاصطدام مع زوجته التي لم تكن في نظره سندا”ولا سكنا”ولا أمانا” له .

خاب’أمله بكل شيء وخصوصا” بنفسه .

وراح يتذكر كيف كان يحلم قبل’زواجه بزوجة دافئة حنونة تنسيه تعب’ يومه  الطويل ،وتربي أبناءه على الفضائل لكن’ كل أحلامه ذهبت مهب’ الريح .

وفوق’ كل همومه اندلعت الحرب في المنطقة التي كان’يسكنها هو وأهله فخرجوا من منازلهم إلى مناطق آمنة .

توقفت أعمال البناء في تلك الفترة فقد خشي’الناس من’الحرب فأجلوا مخططاتهم في البناء .

عاشت سارة مع زوجها وأبنائها  في بيت أهلها الذين’سافروا خارج’البلد .

وهنا بدأت مأساة جديدة في حياته فقد ارتفع’صوت زوجته  عليه أكثر ، وراحت تجرحه بالكلام وتعيره ممننة”إياه ببيت أهلها الذي سكنوا فيه

وراحت تلح عليه  بأن يخرج ويبحث عن عمل جديد .

كان عبد الحميد في تلك الفترة العصيبة يخسر أهله واحدا”

تلو’ الآخر فقد توفيت جدته التي كان’يحبها كثيرا”وفاة”طبيعي بعد’أن  تقدم’بها  العمر كثيرا”

ولم تمضي عدة أشهر على وفاة جدته حتى توفي أبوه في موجة شرسة من إحدى موجات  الحرب الهائجة .

لم تترك زوجته له المجال لحزن هادئ لا على جدته ولا حتى على أبيه ، فكيف’ يهدأ ويحزن وصوتها يدوي ملء الجدران وكلامها الجارح يمزق قلبه ويفطره شيئا” فشيئا”.

في أحد الأيام مرضت أمه  مرضا” شديدا”ولم تعد النقود التي لديها تكفي لدفع إيجار البيت الذي كانت تسكنه وحدها بعد وفاة حماتها وزوجها وتزويج بناتها  الأربعة واللواتي سافرن’مع أزواجهن وأولادهن خارج البلاد تحت وطأة الظروف القاسية ،وانتقلوا إلى ظروف ليست بأحسن من سابقتها .

احتار’عبد الحميد في أمر مرض أمه  كثيرا”فهو لا يعرف  كيف سيفاتح زوجته بأن تقبل’بانتقال أمه للعيش معهم وعندما لم يبق’أمامه أي خيار آخر  فاتح’زوجته بالموضوع فأرعدت وأزبدت وقالت ما قالته من إساءات ،

وعندما هدأت قالت له :لا يوجد خيار آخر أحضر أمك إلى بيتي ولكن لن أقوم’ على رعايتها أبدا” .

ذهب عبد الحمبد إلى أمه وأقنعها بالمجيء والعيش معهم .

لم يكن أمر موافقة أمه بهذه الصعوبة فالأوضاع المزرية في تلك’الفترة أجبرت الناس على الكثير من’ التنازلات من أجل البقاء .

وعندما كان’يسير مع  أمه في الطريق تزاحمت الأفكار داخل’رأسه  فهو الذي كابر’على جراحه ومعاناته مع زوجته عشر’سنوات  سيفتضح أمره اليوم .

لمحت أمه ما يجول في خاطره  بقلبها وأرادت أن تريحه من عناء التفكير .

فقالت له : آه يا ولدي كيف تتغير الأقدار وكيف يلف دولاب الحياة فيعلو قدر أناس وينخفض قدر آخرين

أعرف يا بني كم تعاني مع زوجتك’ وكم أنت’متعب منها .

نظر’إليها بدهشة واستغراب وقال’لها ولكن يا أمي كيف عرفت كل’هذا وأنا الذي ما أخبرتك يوما’بما أكابده من أوجاع .

ردت أمه بصوت دافئ وهادئ : يا بني الأم لا تنتظر من أولادها إخبارها عن أوضاعهم فقلبها يشعر بهم دون أن يتمتكلمون ،أردفت قائلة” :الفرح الذي كان يتراقص داخل عينيك غادرهما منذ عشر سنوات ، ورنين ضحكاتك خفت حتى تحولت إلى مجرد ابتسامات تجامل فيها الآخرين .

كانت تتكلم بصوت يقطعه اللهاث ،وعندما انتهت من كلامها صمتت وأطالت الصمت  ،فكان لدى عبد الحميد فرصة لذرف الدموع بكى عشر سنينه كلها وعندما أوشكا على الوصول أخرج’منديله ومسح دموعه وتصنع’ التماسك .

ومنذ لحظة دخول عبد الحميد وأمه إلى بيت زوحته سارة

الثرثارة بدأت رحلة عذابات ومعاناة جديدة جعلته يشتم نفسه في اليوم ألف’مرة على هذا الاختيار الرديء .

سيطر’على عقله فكرة أرهقته حد الهلاك وهي (أن’:الإنسان في القرارات المصيرية عليه التروي والاعتماد على الكثير من’الركائز حتى يحسم أمره ويبت بقراره النهائي لأن’ الزواج يليه الإنجاب ، وبوجود الأولاد يصبح قرار البقاء سيء وقرار الانفصال أسوأ ) .

طبعا”هذه الفكرة لم تنبت من  جهده الشخصي وإنما كانت خلاصة  نصائح أهله الذين خسرهم  .

ومنهم من ذهب غير’قرير عين على ما آل إليه مصير ولدهم الوحيد .

ثم يتمتم بصوت يكاد يكون مسموعا”: ولكن ما الفائدة لقد وقع’الفأس بالرأس ..

ويردف :  العناد …العناد  لعن’الله العناد

في أحد المرات كان شارد الذهن يتملكه الحزن من كل صوب ، تذكر’ حوارا”دار’ بينه وبين’جدته عندما كانت تحاول إقناعه بعدم الزواج من سارة حيث قالت له بعد جدال طويل جعل’حلقها يجف من كثرة الكلام ، يا بني يقول المثل :

( إذا لم يكن لديك’كبير فاشتري كبيرا”)

تذكر’عيني جدته اللتين كان يملؤهما الحرص كما لو أنها أمامه الآن ، وتذكر’ حماقته وقلة ذوقه عندما رد’ عليها بسخرية قائلا”: و ما ثمن الكبير هذه الأيام ؟!

ثم’اعتصر قلبه لما تذكر’وقار’جدته وكيف’آثرت الصمت بعد طرفته التي لم تضحكها قط .

لم يقطع سلسلة تفكيره سوى صوت سعال أمه المتواصل

فأسرع إلى غرفتها بلهفة تفقدها فوجد حالتها تسوء .

قام’بنقلها إلى المشفى وظل’ملازما”إياها يخدمها بكل رعاية وحنان وبعد مضي حوالي الشهر تراجعت حالتها كثيرا”  ثم’فارقت الحياة .

كان صراخ عبد الحميد وعويله وبكاؤه كافيا”لغسل أحزان قلبه الذي لاطمته الأقدار وجرجرته على أرصفة الإذلال .

بعد الجنازة شعر’عبد الحميد بنفسه أنه خسر كل ذويه

ما عدا أبنائه الذين كان يحبهم  أكثر من روحه .

قرر’أن يهجر’زوجته ويشرف على أبنائه من بعيد لأن’قلبه لم يعد يحتمل حتى مثقال’ حبة من قهر  .

بحث عن عمل جديد واستأجر غرفة”سكن’فيها وفرشها بفرش بسيط  يتضمن كل ما يحتاجه  وراح يعمل بجد ويطيل الصمت والشرود و كان قد أصابه متلازمة القهر والندم ، ولكنه  على الأقل شفي’ من مرض الإذلال .

# عائشة أحمد البراقي