
لمحة تاريخية عن كاتدرائية يبرود ✍️ Aisha alboraki
بين الكنائس الأثرية القديمة التي تزيّن أرض سوريا لا شك أن كنيسة يبرود هي من أعظمها شأنا وأجلها بنيانا ، عندما كان المشرق يدين بالديانة المسيحية بأسره وكان الملوك والولاة في العهد البيزنطي في بلاد الشام يتسابقون في إنشاء الكنائس وتحويل المعابد والهياكل الوثنية الى معابد مسيحية، شيّدت كنائس عديدة وكأنها لوحات من الفن والجمال، ولكن لسوء الحظ على مر العصور وبسبب الحوادث الطبيعية والتاريخية التي ألمّت بالشرق المسيحي هجرت معظم الكنائس وأصبحت أطلالاً بائدة تذكّر الخلف بمجدها السابق، فمن المئة كنيسة التي شيدت في سوريا في أوائل النصرانية لم يبق الآن إلا كنيسة مار سمعان العمودي في جبل سمعان وكاتدرائية يبرود المشيدة على اسم القديسين (قسطنطين وأمه هيلانة) ، حتى أن الأولى لولا العناية الخاصة التي توجهها نحوها مصلحة المتاحف والآثار لكانت تبعت ما اندثر مثلها وأصبحت أثرا بعد عين .
ترتقي كاتدرائية يبرود في هيأتها العامة إلى أواسط الجيل الثالث بعد المسيح، لا بل تدل حجارتها في جدرانها الخارجية إلّا أنها أقدم عهداً ، فقد كانت في عهد مملكة يبرود الآرامية معبداً وثنيا لعبادة الشمس منذ أواسط القرن الأول قبل الميلاد ،
ولنا برهان ساطع على ما تقدم وهو المرسوم الذي أصدره الملك ( أغريبا الثاني حوالي ٥٤ قبل الميلاد ) بخصوص أحد الكهنة الذي كان قد اغتصب رئاسة الكهنوت وتصرف كما يشاء بصندوق المعبد، ونقش هذا الأمر على أحد جدران الهيكل كي يكون على مرأى من الجميع ، وهذا الحجر محفوظ إلى الآن في أساسات إحدى دور يبرود القديمة التي لم يعرف مكانها بالضبط .
كان المعبد في ذلك العصر مستطيل الشكل يتراوح طوله بين ٣٠ مترا بعرض ١٩ متر ، ومقسوماً الى ثلاثة أروقة يدعمها صفّان من الأعمدة ،
في ابتداء الجيل الثالث قد يكون عظم شأن المستعمرة الرومانية التي كانت تسيطر على يبرود قد طرأ ما ضعضع دعائمه فترممت أكثر أجزائه ، فزيدت من الجهة الشرقية هذه الحنية البديعة التي ليس لها مثيل في كل سوريا ، وأبدلت عواميده الضئيلة بأساطين أو عضادات ضخمة كي تدعم أقواسه الواسعة التي تتجاوز ٧ أمتار ، وقد يكون حدث أيضا بعض التغيير في جدران الهيكل الخارجية
، وهكذا يتّضح لنا هذا الاختلاف الظاهر بين أقسام جدرانه، فأصبح معبدا ضخما يمثل لنا أحسن تمثيل الأبنية الرومانية العامة ، التي كانت بيت الأمة ، فالكهنة كانوا يؤدون فيه فروض العبادة، والقاضي يجلس على كرسي القضاء ويعطي أحكامه، والباعة يعرضون بضائعهم في أروقة المعبد الواسعة،
لا نعرف الوقت الذي دخل فيه الدين المسيحي بالتحديد جبال القلمون لكن مما لا ريب فيه أنّ الديانة المسيحية كانت في ابتداء الجيل الرابع متأصلة في مدينة يبرود ، ويقال أن القديس توما هو الذي نشر المسيحية في جبال القلمون، وبعد ذلك نرى أحد أساقفة يبرود وهو المطران
( أجناديوس ) هو أحد أساقفة الامبراطورية الرومانية الذين حضروا ووقعوا على قرارات مجمع (نيقية المسكوني عام ٣٢٥ ميلادية ) ، ففي ذلك برهان واضح على أن النّصرانية كانت فيها ذات شأن ، وعندما أخذت القديسة هيلانة على عاتقها بناء الكنائس وإنشاء المعابد في سوريا وفلسطين ، حوّلت هيكل جوبيتر الوثني الى كنيسة فأصبح معبد الشمس أولا ومعبد جوبيتر الروماني ثانيا هيكلا لنور الشمس العقلية .
كانت ولا زالت أغلب بلدات القلمون بعيدة عن طرق المواصلات الرئيسية وعلى هامش الحوادث المهمة التي طرأت على تاريخ سوريا ، لذا نرى القلمون في مأمن من الغزوات التي انقضت على الامبراطورية الرومانية حتى ظهور الإسلام ولم يصب المسيحيون بسوء ولم ينلهم أذى ، والفتح العربي الإسلامي لم يؤثر كثيرا على مسيحيي القلمون ، لذا نعتقد أن كنيسة يبرود احتفظت برونقها وجمالها وتقام فيها حفلات الطقوس الكنسية باللغة السريانية ، وعاش مسيحيوا سوريا بكرامتهم طيلة العهد الأموي ، ولكن انتقلت الخلافة إلى الدولة العباسية وما تلاها من قيام أنظمة سياسية تغيرت الأحوال على مسيحيي سوريا أجمع، إذ ابتدأ عصر الاضطهادات أما فيما يخص كنيسة يبرود فلا نعرف عنها شيئا مدة هذه الحقبة الطويلة أي منذ انتقال الحكم من الدولة الأموية الى العهد التركي ولكن المؤكد أنه في العصر المملوكي تحولت بعض كنائس القلمون إلى مساجد إسلامية ولا زالت، وفي القرن السابع عشر الميلادي حدث زلزال هائل هدم الحائط الغربي مع ثلاثة قناطر في كاتدرائية يبرود وظلت على هذه الحال بدون أداء الطقوس الدينية بل أصبحت مشغلا لغزل خيوط الجوت ( القنب ) حتى العام ١٨٣٤ ميلادية ، ففي خلال كل هذه المدة استعاض عنها المسيحيون بكنيسة صغيرة شيدوها من الجهة الجنوبية للكاتدرائية على اسم القديس جورجيوس .
( في سنة ١٧٨٠ ميلادية ، وحين زار الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان من قبل أحمد باشا الجزار نزل إلى يبرود ومعه قسم من جنوده بينهم عدد كبير من المسيحيين ، الذين رغبوا في حضور القدّاس نهار الأحد ، وإذا كانت كنيسة القديس جورجيوس تضيق بهم اقاموا مذبحا على أنقاض الكاتدرائية وحضروا الذبيحة الإلهية ) .
ولما مر الفاتح المصري ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا حاكم مصر أثناء حملته المصرية على بلاد الشام على يبرود وأقام عدة أيام بها ، توسط أمين سره الأميرلاي يوحنا بك البحري الحمصي الاصل حيث استاذن مسيحيو يبرود في إعادة بناء وترميم كاتدرائيتهم المهدمة وإصلاحها فنزل إبراهيم باشا عند طلبهم وسمح لهم بترميم الكاتدرائية ومنحهم الأرض البراح بجانبها لبناء دار مطرانيتهم ، فقاموا بهدم كنيسة القديس جاورجيوس المجاورة ونقلوا حجارتها وأشادوا الحائط الغربي وأعادوا ماسقط من جدرانها ورفعوا سقفها وقد شارك مسلمو يبرود إخوانهم في هذه الأعمال حينذاك ، ولكن من المؤسف لم يراعوا هندسة بناء الكنيسة وأصول البناء وإعادة حجارة الجدران إلى مواضعها الأصلية .
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين وفي عهد المطران عطا تم بناء برج الجرس ومكان مصلى النساء، وفي العقد السادس من القرن العشرين تم بناء برج الساعة .
هذه الكنيسة هي إرث ثمين من كنوز يبرود الآثارية، وعندما كانت معبدا للأصنام كانت أضخم بناء في جبال القلمون من بعد هيكل جوبيتر بعلبك ، لا بدَّ من الحفاظ عليها لأنها تحفة من الفن وأثرا عظيما من آثار يبرود التي تعود إلى أكثر من ٢٥٠٠ عاما مضت.
