الجن والشياطين

بين المفهوم الخرافي المتوارث والمعنى المنطقي المقنع.

نعلم جميعنا بأنَّ ثمة جهل كبير ينتشر في الكثير من التفاسير الإسلامية، الإسلام أسمى بكثير من ترّاهات كهذه.

إلى كلّ شخص يشعر بالرعب من الجن والشياطين ويجهل حقيقتها ويقلقهُ التَّفكير بها أو حتَّى مجرَّد ذكرها إليكم هذا المقال:

ضحايا الخرافة والخيال:

قالَ الله تعالى: ( إنَّ الظنَّ لا يُغني منَ الحقّ شيئاً ) يونس 37

لو كنتَ تتنزَّهُ ماشياً في غابة، ولمحتَ عنْ بُعد دخَّاناً يتصاعَدُ من مكانٍ ما فيها، تعلمُ حينئذٍ أنَّ ثمّةَ ناراً مُشتعلةً حيثُ يتصاعَدُ الدُّخان.

هذهِ المرحلة من عِلمكَ بالنَّار المشتعلة تُسمَّى: ( علم اليقين ) .

ثُمَّ إذا تابعتَ سيرَكَ فوَصَلتَ مَكانَ الدُّخانِ ورأيتَ النَّار بعَينَيكَ وَ شَهِدتَ الدُّخانَ المتصاعد منها تَكونُ عندئذٍ في مرحلةِ عِلمٍ بالنَّارِ المُشتعِلة وهذهِ المرحلة تختلف عن حالة عِلمكِ الأولى.

هذهِ المرحلة التي تشهدُ فيها النَّارَ بعينيك تُسمَّى: ( عَين اليقين )

ثُمَّ إذا اقتربتَ منَ النَّارِ واصطليتَ بها تصيرُ عندَ ذلكَ في مرحلةٍ منَ العِلمِ بالنّار تسمَّى:

( حق اليقين ) وتلكَ الحالات التي مررتَ بها هيَ درَجات العلم الثلاث التي بيَّنها القرآن الكريم.

والآن…..

ما هيَ حقيقة العلم لَديك بما يُسمَّى بالجنّ والشَّياطين؟

هل علمُكَ بهم من درجاتِ العلم الثلاث هوَ:

علمُ اليَّقين

أم عينُ اليقين

أم حقُّ اليقين؟

لَو جاءكَ ابنُكَ أو ابنتُكَ يشكوانِ أنَّهما يخافا الظَّلام وأن يكونا وحدَهُما في أيِّ مكان؛ وأنَّهما يخافا ظُهورَ الجِّن والأرواح، فماذا تستطيع أن تقولَ لهما؟

ولو قلتَ إنّهُ لا وجودَ للجنّ والشَّياطين، فقالَ لكَ أولادُكَ إنَّهم يسمَعونَ عنهم منَ النَّاس ويتعلَّمونَ في المدرسة أنَّ ذِكرَ هذهِ المخلوقات قد وردَ في القرآن الكريم والكِتابِ المُقدَّس، وأنَّ الكثير الكثير منَ مشاهير الكُتَّاب والمُؤلفين قد كتبوا عن إيمانهم الرَّاسخ بالجنّ والشَّياطين ( باعتبارهم أرواحاً خفيَّة ) وتحضير الأرواح.

هل تجدُ عندَئذٍ أنَّكَ تملكُ جواباً مقنِعاً تُنقِذُ بهِ أولادَكَ مِن شبَحِ الخّوفِ الجّاثِمِ لهم على عتباتِ اللّيل بسكونهِ وغموضِ حلكتهِ لو صدَفَ أنْ وجدَ أحدُهم نفسَهُ وحيداً دونَ رفيق مُؤنس يطردُ خَوفَ احتمالِ حضورِ الجّن في أيَّة لحظة، ولأيّ سبب كان؟

يقولُ النّاسُ بوجودِ الجنّ وحضورِهم، ويروونَ القصص الغامضة والمثيرة عنهم في البيت والشّارع والمَدارس وأمكنة العمل وكذلكَ في كلّ مدينة أو قرية، حيثُ تسمَعُ الحديثَ عن شيخٍ ما يكتبُ الحُجُب والتَّمائم للحِماية من أذى الجّن و الشَّياطين، أو استجلاباً لعونهم!

ويجدُ المهتم مئاتٍ بل وآلافاً من كتبِ المشاهير منَ المؤلفين من أصحابِ الاختصاصات الأدبيّة أو العلميَّة تتحدّثُ بإسهابٍ عن إيمانِ أصحابها بالوجودِ الغيبي للجن والشَّياطين وإمكانيَّة حضورهم أو تحضيرهم، وبقدرتهم على إيذاءِ النَّاس أو تقديم العون لهم عَن طريق المشايخ ( المُؤاخينَ للجنّ كما يزعمون ) أو لهوهم وعبثهم وتخويفهم للمنفردينَ منَ النَّاس في البيوت والأماكن المهجورة والبساتين والدُّروب غير المطروقة.

وتجدُ حتّى المُدرّسين في المدارس يتحدَّثونَ بالإيمانِ نفسِهِ عَن هذهِ المخلوقات المزعومة الغامضة ويؤكِّدونَ على وجودَها وحضورِها، وَ ينقلونَ الكَّثير منَ الرّوايات المثيرة عنها، ويدعمونَ إيمانهم بإمكان حضور وَ تحضير الجّن والشَّياطين بما فهموا هم منَ القرآن الكريم أو الحديث الشَّريف وما تعلَّموهُ هم منَ المَشايخ النَّاشرين لقصص الجنّ والعفاريت.

ولو وجدتَ من هؤلاء مَن لا يُؤمن إيمانهم، ولايقولُ بقولهم ولا يعتقدُ بوُجودِ مخلوقات شبحيّة تقفزُ وتتنطّط وتُخيف النّاس، لألفَيتَهُ عاجزاً عن البُرهان على رأيهِ وغير قادر على تقديم أيّ دليل مقبول، وخاصَّةً يُواجههُ المُناظِر أو المُجادِل بحُجَّةِ أنَّ ذِكرَ هذهِ المخلوقات

_ الجن والشَّياطين _ قَد وردَ في القُرآن الكريم والكتب المقدَّسة.

نعم، والحقّ يُقال: إنَّ ذِكرَ الجنّ والشَّياطين قد وَردَ في القُرآن الكريم، قالَ اللهُ تعالى:

( وما خلفتُ الجنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبدون ) الذاريَّات 57

وقال عزّ وجل: ( إنَّ الشَّيطانَ كانَ للإنسانِ عدوَّاً مبينا ) الإسراء 54

معنى الجن والشياطين

ولكنّ السّؤال الذي يطرحُهُ العقل المتفكّر هوَ: هل مجرّد وُرود ذكر الجن والشَّياطين في القرآن الكريم، يجبُ أن يعني بالضّرورة وبشكلٍ حتمي موافقة كتاب الله عزّ وجل على المفهوم الخرافي الشَّائع بينَ النَّاس، بأنَّ الجنّ والشَّياطين إنّما هيَ مخلوقات شبحيَّة غامضة، تقفزُ في كلِّ مكان منَ الأرضِ والسّماء، وتتصرَّف بقُدُرات عجيبة خارقة؟ فهيَ تارةً تعبثُ بالنّاسِ تخيفهم وتسبب لهم (الفَّالج)، وتارةً تدخُلُ أجسادَهُم وَتُسبب لهم الصَّرَعَ والجنون، وتارةً تُسبب العداوة والبغضاء، أو تجلبُ الرِّزقَ أو الحبَّ والوِفاق لبعضِ النَّاس بفِعلِ ( حِجاب ) كَتَبَهُ الشَّيخ الفلاني من خِلال قُدرتِهِ على تسخير الجن، وهيَ أحياناً ترصدُ الكنوز وتُؤذي مًن يقترب مِنها؛ أو تدلُّ بواسطة ( المندل ) على الكُّنوز وتجلِبُ الحظَّ السّعيد للباحثِ عنه.

وهيَ تُساعد حسبَ ما يزعمون الشَّيخَ وأعوانه على معرفةِ الغّيبِ وخفايا الأمور، ولكنَّها حسبَ ما ينشرون تُؤذي من لا يصدّقُ بها وبقدراتها، كما تُؤذي من يغسلُ ثيابه أو يقص أظافرهُ ليلاً، أو يهرقُ ماءاً ساخناً يصادِفُ مرورَ جنّي أو جنيَّةٍ أو ولدٍ لهما، والويلُ كل الويل إذا كانَ هذا الولد ابنَ أحد ملوك الجًّان الأزرق أو الأحمر أو غيرِهما منَ الألوان.

ويُفصّلُ المؤرّخونَ لقصصِ الجن أسباب إيذاء الجنّ والعفاريت للنّاس فيقولون:

(( إنّهُ قد يكون عن شهوةٍ ومحبَّةٍ وعِشق، كما هوَ الحال بينَ الآدميين، وقد يكون عن بُغض وانتقام، إذا صدرَ عن الإنس فِعل يؤذيهم: كأن يبولُ عليهم وهوَ لا يدري، أو قتلَ أحداً منهم عن غيرِ قصد، وقد يكون عبثاً منهم …. لذلكَ فليحذر الإنسان من هذه الأشياء [2]

إنما الحقيقة غير ذلك كليّاً:

فالإسلام سواءً في القُرآنِ الكّريم أو في بيان سيّدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الشَّريف يُعلِّمُنا مفهوماً آخرَ عن حقيقة ما وردَ من ذكرٍ للجنّ والشَّياطين

علَّمنا الإسلام عن الجّن مفهوماً رائعَ البيان لا يتناقضُ أبداً معَ العقلِ السّليم، ولا يلفظُهُ المنطق، ولايرفُضُهُ العلم المختص بالدّراسة والبَّحثِ والتَّحقيق.

ولكن قبلَ أن نوردَ البيانَ الحق، ونكشفَ السّرّ المخبوء، يُفيدُنا أن نُعيدَ إلى الأذهان الصُّوَرَ العجيبة والغريبة عن الأفهام والعقائد المأثورة لدى النَّاس على اختلافِ مستوياتهم العلميّة

أو الاجتماعيّة أو غيرها بما يسمّى بحقيقة الوجود الشَّبحي للجنّ والشّياطين، وإمكانيّة استحضار الأرواح الطّاهرة والخبيثة منها كما يزعمون.

يُكفِّرُ المُؤمنونَ بأشباحِ الجنّ من لا يؤمنُ إيمانهم فيقولون:

(( فمن نكرَ وجودَهم كافرٌ، لإنكارهِ ما عُلِمَ منَ الدّينِ بالضَّرورة ))

ولو تتبَّعتَ وصفَ الجنّ في الكُتُب المروّجة لها فإنَّكَ ستجدُ نَفسكَ أمامَ صوَرٍ خرافيَّة محضة.

لا يمكنُ للعقلِ السّليم المخلص أن يقبلَها إلاّ إذا استطاعَ أن يصدّقَ الخرافات والأساطير عن بلاد السّحر والعجائب ووحوش جزر واق الواق المرويّة في قصص ألف ليلة وليلة.

المفهوم الخرافي للجن:

الجن عندَ هؤلاء أجسام عاقلة خفيفة تغلُبُ عليها النَّاريّة أو الهوائيّة، وهم كما يقولون ___ مخلوقات سُفليّة من أخلاط ناريّة صافية.

وهم يأكلونَ ويشربونَ ولهم ذُريَّة، ومنهُم الذُّكور والإناث.

وهم غالباً ما يسكنونَ في مواضع النَّجاسات والمعاصي كالحمَّامات والمزابل،

وفي الخرائب حيثُ أنهم يفضِّلونَ الأماكن الخاليَّة منَ الإنس كالصَّحارى.

وقد يسكنونَ معَ الإنسان في سكنه حسبَ زعمِ الزَّاعمين.

وأكثر ما يتواجدونَ في الأماكن غير المأهولة كالبيوت المهجورة والأودية والأماكن المُظلمة.

ويتساءلُ المرء مُستغرباً: تُرى من أينَ يأتي هؤلاء بهذهِ المعلومات والبيانات المفصَّلة كلّها عن الأشباح؟

ويزيدُ هؤلاء العارفين في التَّفصيل فيقولون:

(( وللجنّ قدرات كبيرة ومهارات فائقة، وإبداعات فنيّة، فهُم قَد بنَوا لسيّدنا سليمان عليهِ السَّلام مدينةَ تدمُر الأثريّة في باديّة الشّام، ومشهورٌ على ألسنة النَّاس في أوربا أنَّ جسر (سان كلود) في باريس وأنَّ قنطرة ( شوكير) في سويسرا من عمل الجّن أيضاً كما يُشاع.[3]

ويُؤكّدُ أصحاب هذهِ المؤلَّفات إمكانيَّة تسخير الإنسان للجن واستحضارهم وصرفهم ويتحدَّثونَ عن طعامِ الجنّ فيقولون:

(( إنَّ فضلات طعام الإنسان منَ العظم هيَ طعامهم، وفضلات الدّواب منَ الرَّوث علفٌ لدوابهم.[4]

ويروي صاحب كتاب ( الإيمان بالملائكة ) أنَّ روث الحيوانات والعِظام هيَ أيضاً من طعام الجنّ ( ص 257 )، كما يوردُ صاحب كتاب ( الإنسان بينَ السِّحر والعينِ والجان )فهمهُ لحديثٍ عن الرّسول صلى الله عليه وسلّم، ويُعلّقُ عليهِ كما فهمَهُ هوَ فيقول:

( ولمّا خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته أمرَ أبا هريرة أن يأتيهِ بأحجار يستجمر بها، وقالَ لهُ: لا تأتني بعظمٍ ولا روث).

ويُعلّقُ صاحبُ الكّتاب فيقول:

( وبيَّنَ أنّ سببَ ذلكَ أنّهما طعام الجّن… لذلكَ نهانا أن نستجمرَ بالعظم حتى لا نحرمَ الجنَّ من أكلهِ)

رغمَ أنّها بالأصل روث وفضلات!!

أي أنَّ الجن على عظمة شأنهم وطولِ صرحِ عماراتهم وخارق قدراتهم، كما يُؤمنونَ هم ______ لا يعيشونَ في أماكنَ النَّجاسات كالمراحيض والحمّامات، كما يقولون، وحسب، ولكن قدرهم المُقدَّر أيضاً يكونَ غذاؤهم من فضلات طعام الإنسان والحيوان كالرّوث والعِظام.

يقولونَ هذا بالرّغم من اعتقادهم همْ أنّ:

( الجّن والشياطين عالم قائم بحدّ ذاتِهِ منهم المؤمنونَ، ومنهم غيرَ ذلك، وهم على أديان مُختلفة. وأنّهم كالإنسِ يملكونَ حُرّية التصرّف. [3]

ويطلع علينا المروّجونَ لقصص الجّان وأخبارهم بنُكات يأخذونها هُم مأخذَ الجّد الرصين، حيثُ جاءَ في كتاب أحدهم:

( وإذا كانَ الإنسان القديم يخوّفُ صِغاره بالجنّ والعفاريت فلا أستبعد أن يخوّفَ الجّن في الوقتِ نفسهِ أولادهم بالإنسان وبأسهِ وبطشهِ، خصوصاً وأنَّ وسائلَ الدَّمار والمكرِ والبطش، التي توَّصّلَ إليها الإنسان قادرة على إبادة الأرض ومن عليها لا سمحَ الله)[3]

ويروي صاحب كتاب (الإيمان بالملائكة) فكاهةً أخرى عمّا أسماه: تأديب العاصي منَ الجّن فيقول بأنَّ تفسير قول الله تعالى: ( ومن يَزغ منهم عن أمرنا نُذقهُ من عذابِ السَّعير ) سبأ13

( أي يُسلّط عليه ( على الجنّي ) الملك سوطَ النَّار فيضربُهُ الملك إذا استعصى الجنّي عن طاعة سليمان عليهِ السَّلام ).

ويُدهشنا بالمزيد من خوارق الجّن فيقول إنَّ جنَّ الملك سليمان:( كانوا يصنعونَ له الجفانَ الكبرى التي هيَ كالحياض الكُبرى وكلّها مملوءة بالطَّعام، وأنّهُ كانَ يقعد حولَ الجّفنة الواحدة من تلكَ الجّفان ألف رجل يأكلونَ منَ الطّعام.[5]

ولكنَّ صاحب الكتاب لم يذكر لنا على نارِ أي بركان كانوا يطبخونَ طعامَ الصّحن الواحد من هذهِ الصُّحون العملاقة.

وأوردَ الأستاذ عبد الوهاب النجار صاحب كتاب ( قصص الأنبياء) في الصفحة 318 عن المفسّرين يحكونَ عن بساط الرّيح الذي كانَ يطير به الملك سليمان عليه السلام على حدّ زعمهم، فيقولون:

(( إنَّ سليمان كانَ لهُ نحو البّساط منَ الخشب لهُ ألف ركن، في كلّ ركن ألف بيت يكون فيها جندُ سليمان من كلّ صنف، وتحتَ كلّ ركنٍ ألف جنّي يحملونَ ذلكَ الشّيء الخشبي حتى يرتفع في الجو، وحينئذٍ تسيرُ بهِ الرّيحُ، وكانَ يخرجُ منَ القُدس فيقيلُ في ( اصطخر)، ثمَّ يبيتُ في خراسان))!!

ويورد الأستاذ عبد الوهَّاب النجار تحليلاً متفكراً لهذه الخرافة فيقول:

( لو أنَّ القائلين ببساط سليمان الذي تحملُهُ الرّيح اقتصروا على عشرة أذرع في مثلها، أو عشرينَ ذراعاً في مثلها، أو مائة ذراعاً في مثلها، لكانَ الأمرُ معقولاً ومقبولا.

أمَّا وهم يقولونَ: إنَّ فيه ألف ركن في كلّ ركن ألف بيت، فإنّهم يجعلونَ لهُ منَ السّعة وترامي الأطراف مالا يقبله تصوّر.

بل لم يكن في مُلكِ سليمان كله ما يكفي لشغلِهِ منَ الجُّند، ___ إذا جعلوا فيهِ مليونا منَ البيوت للجند __ فإذا كانَ في البيت الوّاحد جنديّان جنديَّانِ فقط كانَ فيه مليونان منَ الجّند _ ولايصح أن يكون قد خلّفَ منَ الجُند أقلَّ منهم لحماية البلاد، فتلكَ أربعة ملايين.

فإذا كانوا عُشرَ السُّكّان وجبَ أن يكونَ السُّكّانُ أربعينَ مليوناً وهوَ عدد لايمكن أن تسكن فلسطين ولبنان وسوريا بنصفهِ أو ربعهِ).

ورد في الكتب الكثير الكثير مما لا يقبلهُ منطق ولا عقل ولا مجال لذكرها كلها في هذا المقال.

نتابع في الموضوع من زاويةٍ أُخرى:

نقلَ الدّكتور السيّد الجميلي صاحب كتاب ( السحر وتحضير الأرواح بينَ البدع والحقائق)

ص105عن الإمام الشَّافعي قولهُ:

(( من زعمَ من أهلِ العدالة أنّهُ يرى الجنّ أبطلنا شهادتهُ إلاَّ أن يكونَ الزَّاعمُ نبيَّاً ))

ثمَّ يعلِّق الدكتور الجميلي على هذا القول بأنَّ الإمام الشَّافعي رحمهُ الله لم يكن يقصدُ عدمَ إمكانيّة رؤية الجّن، فيقول: ( ولعلَّ قصدَ الشَّافعي رضيَ الله عنهُ: الذينَ يرونَ الجنّ في صورتهم الغازيَّة. فإن كانوا كذلكَ فلم تكن هذهِ الرؤية حقيقيّة وإنّما هلوسات سمعيَّة وبصريَّة وخداع الحواس).

ويتابع الدكتور فيصنّف الجن قائلاً إنّها في رأيِ العلماء ثلاثة أصناف:

1- صنف عقارب وحيَّات وخشاش الأرض والجراثيم وما إليها، وهذا الصّنف منَ الجان ضار، وعلى الإنسان قتلها إذا وجدها.

2- صنف كالرّيحِ والهواء.

3- صنف كبني آدم تماماً مُكلَّفونَ يخاطبونَ بالشَّرعِ، ومسؤولونَ يومَ القيامة.

وللجنّ ممالك وأنظمة وقوانين……

ويلاحظ المرء أنّ هؤلاء يختلفونَ في موضوع قتل الحيَّات الجنيَّة، حيثُ يخالف صاحبُ كتاب ( الإنسان بينَ السّحر والعينِ والجان) للكاتب أ.زهير الحموي الدّكتور الجُميلي في تنفيذ قتل الحيّة مباشرةً، لأنّ قتلها مباشرةً يمكنُ أن يُؤذي قاتلها أو قد يؤدّي إلى أن ينتقمَ منهُ أهلها منَ الجنّ، فنجدهُ يقول في معرض شرحهِ لحديثٍ على ما يفهمُهُ هو

(( ومعنى ذلكَ أنَّ الإنسان إذا رأى في بيتِهِ حيّةً فلا يستعجل في قتلها، وعليهِ أن يؤذنها ____ أي يمهلها ____ ثلاثة أيام فيقولُ لها: ( أُنشدكنّ بالعهدِ الذي أخذَ عليكم سليمان بن داوود، ولا تظهروا لنا، وإلاَّ قتلتكِ. فإن عادت بعدَ ثلاثة أيَّام قتلها))!!!

سؤالٌ مخلص:

إذا قفزَ شخص مذعوراً من فراشهِ يقولُ لكَ إنّهُ رأى عقرباً ينسلُّ مندسّاً إلى غرفة نومهِ، هل تستطيعُ أن تطمئنهُ وتُذهِبَ الرّوعَ عنهُ بمجرَّدِ أن تقولَ لهُ: لا تخف ليسَ ثمّةَ عقربٌ في غرفتكَ أو فِراشكَ إنّما أنتَ واهم ويُمكنكَ العودة إلى النَّومِ براحةٍ واطمئنان وسلام؟!

هل تقنعهُ بمجرَّدِ تأكيداتكَ دونما برهان؟

طبعاً لن يقبلَ منكَ، ولن يصدّقَ كلامك إلاّ إذا بحثتَ وفتَّشتَ معهُ في كلّ مكانٍ منَ الغّرفة والفراش فجعلتهُ يعلمُ حقَّ اليقينِ أن ليس ثمّةَ عقرب أو غيره مما يؤذي في غرفته.

أو أن تجدَ العقربَ فتقتلهُ أمامهُ، عندَ ذلكَ فقط تهدأ هواجسهُ وتطمئنّ نفسهُ إلى عدم وجود عقرب في غرفته.

ومقارنةً بذلك فطالما أنّهُ لم يتم تفنيد الحُجَّة بأنّ ورود اسم الجن في القرآن والحديث يبرر كلَّ هذه الصُّور منَ الخُرافةِ والخيال التي ذُكرَت سابقاً، فلن يتم حقّاً القضاء على هذه التّجارة الرّهيبة بكرامة النَّاس وقدراتهم واستغلال ضعفهم وجهلهم وقلّة اطّلاعهم

هذه التجارة التي تغزو وطننا ومجتمعنا وأُمّتنا.

الاختلاف الكبير:

إنَّ الاعتقاد بالوجود الشّبحي للجّن والشَّياطين على أنّها مخلوقا ت مغايرة للبشر يستلزم وجود تناقض واختلاف كثير في القرآن الكريم.

قالَ الله عزَّ وجل:

( ولو كانَ من عندِ غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيرا )النّساء83

( قل هو الله أحد )

والقرآن الكريم هوَ كلام الله الواحد الأحد.

ولذلك فإنَّ كل ما فيهِ يدل على وحدانيَّة الله تعالى.

وهو الكّتاب الذي أُحكمت آياتُه.

وهذا يعني أنَّهُ يستحيل وجود تناقض أو اختلاف في أيَّة آية من آياتهِ أو أي جزء من أجزائِهِ، وهذا أساس وواحد من أهم مفاتيح فهم آياته وبيّناته الكريمة.

فلو ظهَرَ حينَ دراستكَ لأيّ موضوع كان، أدنى تناقض أو اختلاف أو تعارض، فلا بدَّ عندئذٍ منَ الانتباه إلى أنَّكَ تُناقشُ هذا الموضوع وتدرسهُ من خلال فهم خاطئ لا يصحُّ ولا يؤيّدهُ القرآن،

وإلاّ لما بدا لكَ أيَّ اختلاف، قالَ ربنا عز وجل:

( ولو كانَ من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيهِ اختلافاً كثيرا ) النّساء83

إذن يجبُ أن نفهمَ المواضيع التي يعرضها القرآن الكريم على أساس قاعدة أنّه يستحيل وجود أيَّ تعارض أو تناقض أو اختلاف فيهِ لأي سبب، وبأي شكل كان، وهذا هوَ الدَّليل الذي ألزمنا بهِ ربّنا عزَّ وجل للبرهان على أنَّ القرآن من عندهِ وحدَه تباركَ وتعالى، وهوَ كلامه المحكم الذي لا يأتيهِ الباطل من بين يديهِ ولا من خلفه، وإلاّ فإنَّ وجود أيّ اختلاف فيهِ لابدَّ أن يؤدّي بالعقل السَّليم والمنطق الإنساني إلى عدم التَّصديق بأنَّ القرآن الكريم هو كتاب من عندِ الله عزَّ وجل والعياذ بالله، وذلكَ بسبب التَّناقض والاختلاف.

وبناءً على هذا فإنَّ دحضنا للباطل في الاعتقاد بالمفاهيم الخاطئة المتعلّقة بالجن والشياطين يقومُ أساساً على برهاننا منَ كتاب الله عزَّ وجل: إنَّ مثل هذا الاعتقاد لا بدَّ موصلٌ صاحبه إلى وجود اختلاف وتناقض في القرآن الكريم، الأمر الذي يستلزم تصحيح هذا الاعتقاد على ضوء الدّراسة والتَّحليل السَّليم لآيات كتاب الله القرآن وأحاديث سيّدنا رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلَّم كي يزولُ ذلكَ التَّناقض والاختلاف.

وهذا لا يكون إلا بتصحيح هذه المعتقدات الباطلة واستبدالها بالمفهوم والاعتقاد الحق المقصود في القرآن الكريم لا المتوارَث في عقول النَّاس بغيرِ برهان ولا حُجَّة.

قالَ الله عزَّ وجل: ( بل نقذفُ بالحقّ على الباطلِ فيدمغهُ فإذا هوَ زاهقٌ ) الأنبياء 19

والآن:

نتدارسُ معاً بالتَّحقيق الإشكالات القرآنيَّة المترتّبة على الاعتقاد بالوجود الشَّبحي لمخلوقات غير البشر منَ الجنّ والشَّياطين، والزَّعم بأنَّ هذا هوَ الفَّهم الذي يريد القرآن منا أن نؤمنَ ونعتقدَ به.

ولكنَّ الإيمانَ بوجودٍ غيبيّ للجنّ والشَّياطين ليسَ ركناً من أركان الإسلام والتي هيَ ( الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره منَ الله )

كما جاءَ في الحديث الصَّحيح، ولذلكَ فلا مبرر لتكفير من يقول إنّهُ لا يؤمنُ بوجود الجنّ والشَّياطين بالصُّورة الشَّبحيَّة التي يقولُ ويعتقدُ بها الذينَ يفهمونها حصراً بهذا الشَّكل؛ ولامدعاةَ لتكفيرهِ واعتبارهِ مُرتدّاً خارجاً عن ملَّة الإسلام كما يزعمون.

أمّا عن القّول بأنَّ الإيمان بالقرآنِ الكريم يستلزم الإيمان بوجودِ الجّن والشياطين على أساس أنَّها مذكورة في القرآن الكريم، فأقول:

إنَّ التَّصديق بالقرآن الكريم يستلزمُ التَّصديقَ بأنَّ هناكَ ما يسمَّى بالجن والشَّياطين، هذا صحيح، ولكنَّهُ لا يستلزمُ مُطلقاً التَّصديق بالصّور الخرافيَّة التي يعتقدُ بها عامة النَّاس على أنَّها هيَ وحدها المفهوم الإسلامي الصَّحيح الذي ذكرهُ القرآن الكَّريم، أو جاءَت بهِ الأحاديث.

ولهذا نقول إنَّ اختلافَ النَّاس في فهمهم لحقيقة لفظتي الجن والشَّياطين الواردتين في كتاب الله عزَّ وجل يجبُ ألاّ يؤدّي في أيّ حال منَ الأحوال إلى تكفير المُسلمين بعضهم بعضا، أو استعداء بعضهم لبعض.

فلقد اختلفَ الأئمة السَّابقونَ رحمهم الله في كثير منَ المفاهيم والمسائل الإسلاميَّة، سواء ما جاءَ في القرآن الكريم أو الحديث الشَّريف، فلم يكفّر أحد منهم الآخر، بل عدوّا الاختلاف في الفّهم يؤجر صاحبه عندَ الله تعالى.

ونعودُ فنقول إنَّ الاعتقادَ بالوجود الشّبحي للجن والشّياطين واعتبارها مخلوقات من غير البشر، وأنّها مكلّفة ومأمورة بالإيمان بالقرآن الكريم ورسالة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي كما سيأتي لاحقا إلى وجود إشكالات قُرآنيّة واختلاف كبير في الآيات لا يمكن أن يزول معَ الإصرار على الاعتقاد بهذا الفهم الخرافي السّائد.

الإشكال الأوّل: [1]

ينص القرآن الكريم على أنَّ الإنسان وحدَهُ منوط بالتّكليف والجَّزاء:
والدليل من القرآن الكريم قوله تعالى:

( إنَّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجّبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسان إنَّهُ كانَ ظلوماً جهولا ) الأحزاب 73

جاءَ في كلام المفسّرين للقرآن الكريم أنَّ الأمانة هنا تعني: ( التَّكليف )[8]

وهي تكليف الإنسان بحمل الشّريعة والعمل بهداها وتطبيقها كاملةً وعدم الخروج عنها.

ومنَ المعروف أنَّ التَّكليف يأتي معَ الرُّسُل في رسالاتهم إلى النّاس، فمن يؤمن بهم ويصدّقُ برسالاتهم، ويحملُ الأمانة( أي يقوم بأمانة التَّكليف بأوامر الله تعالى ونواهيه الوّاردة في شرعه) يكون منَ الفائزين برضا الله وجنَّته، وأمَّا من يفشلُ في حمل هذه الأمانة ( يخالف التّكليف) أو يرفضها، فإنّهُ يقع في سخط الله وعذابه، وهذا المفهوم المختصر واضح و بسيط

ويعكسُ المنطق المفهوم لدى النَّاس جميعاً فأينَ الإشكال إذن؟

الإشكال ينشأ حينَ نلاحظ أنَّ هذه الآية الكّريمة قد استثنت مِن رفض حمل الأمانة ( التكليف ) مخلوقاً واحداً فقط وهوَ الإنسان ولم تستثنِ غيرهُ.

وإلى هنا ليسَ ثمَّة إشكال ولكن حينَ نتذكَّر قول الله عزَّ وجَل في القرآن الكريم:

( ولقد ذَرَأنا لجهنَّم كثيراً منَ الجن والإنس ) الأعراف 180

هنا يحصل الإشكال، إذ كيفَ يدخل في حساب الله وعذابهِ من لم يُحمّلهُ الله أمانةً ولا تكليفاً؟

فلقد علمنا منَ الآية السَّابقة أنَّ المخلوق الوحيد الذي حملَ الأمانة والتكليف هوَ حصراً “الإنسان”: ( وحملَها الإنسان ).

ولم تقل الآية الكريمة، / حملها الإنسان والجن /. بل ذكرت الإنسان وحده فقط.

إذن كيفَ يُحاسب الجان معَ الإنسان في العذاب أو يُجزونَ بالنَّعيم وهم لم يحملوا أمانةً ولا تكليفاً؟!

وهل يجرؤ أحد على القول بأنَّ هذه الآية ليست مُحْكَمة في معناها ومؤَدَّاها؟

هذا لا يُمكن البتَّة فقد قالَ ربُّنا عزَّ وجل في القرآن الكريم عن القرآن بأنَّه:

( كِتابٌ أُحكمت آياتهُ ) هود2

أي إنَّ قولَ الله عزَّ وجل في كتابهِ: إنَّ الذي حملَ الأمانة هم “الإنسان” يعني أنَّهُ لم يحملها أي مخلوق آخر غيره، بل الذي حملًها وصارَ بذلكَ مكلَّفاً بها محاسباً عليها هوَ الإنسان حصراً لا سواهُ منَ المخلوقات سواء الملائكة أو غيرها.

هذا إشكال يستلزم الحل.

ونورد للإيضاح مزيداً من كلام الله تباركَ وتعالى:

( قالَ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكُم منَ الإنسِ والجن في النَّار ) الأعراف39

هذه صورة للجن في العذاب……

وأمَّا عن الجن في النعيم فقد جاءَ في القرآن الكريم عن الحور العين: ( لم يطمثهنَّ إنسٌ ولا جان ) الرحمن 75

فها أنت ترى الجنَّ في النَّار وتراهم في الجنَّة، فهل يدخلونها جزاءً على التَّكليف، في حين أنَّ الإنسان وحدهُ حامل الأمانة ومنوط بالتَّكليف، والجّن غير مكلّفين.

إنَّ هذا الإشكال لا يُمكنُ أن يزولَ إلاَّ إذا كانَ تفسير معنى كلمة الجن هنا بأنَّهم فئة منَ النَّاس وأنَّ الإنس والجّن تسميتان لجنس واحد منَ المخلوقات وهم البّشر من أبناء آدم عليه السَّلام.

وصفة الجن هنا تطلق على الشخص منَ البشر الذي يمتلك قدرات خارقة أو يقوم بأعمال في الخّفاء لذلك فتسمية جن تشير إلى شخص إنسي بقدرات مختلفة عن غيره سواء كانت سبيَّة أم إيجابية، ولا تشير إلى مخلوق آخر مغاير للإنسان وذلك أثبت سابقاً بالدّليل والبرهان من كتاب الله عزَّ وجل.

الإشكال الثّاني: [1]

يؤكّد القرآن المجيد على أنَّ الله عزَّ وجل لا يُرسلُ رسولاً إلاّ من جنسِ المرسل إليهم: قالَ ربنا تباركَ وتعالى: ( قُل لو كانَ في الأرضِ ملائكةً يمشونَ مطمئنين لنزَّلنا عليهم منَ السَّماءِ ملكاً رسولا ) الإسراء 96

تبيّن هذهِ الآية الكريمة القرار والمنطق الإلهي في أنّ الله الحكيم الخبير بخلقه قَد قدَّرَ ألاّ يُرسلَ إلى مُرسل إليهم رسولاً إلا من جنسهم حتى لو كانوا ملائكة.

وهذا ينسجم أيضاً معَ العقل والمنطق الإنساني في أنَّ الأسوة أو المثل لقوم يجب أن يكون من جنسهم ولهم صفاته وقدراته ذاتها حتى لا يكونَ لهم حجَّة على رسولهم فيقولوا له نحن لا نقدر أن نتبعكَ أو نتمثَّلَ أفعالكَ وأقوالك، لأنَّكَ تتميَّز بقدراتٍ تختلفُ عن قُدُراتنا.

هذا منطقٌ سليم يقبلهُ كل عقل سليم.

فهل يعقل أن نتخيَّل نسراً يُدرّبُ خِرافاً على الطيران فتقلّده وتتمثَّل قدراته وتسعى لأن تتصّفَ بصفاته؟

أم هل يعقلُ أن يُطلبَ منَ الجنّي و العفريت والمارد هذه المخلوقات التي هيَ في عُرف النَّاس تتأجج النَّار في عروقها كما يشيْعون وتسبفُ الضَّوءَ في سرعتها وتلمسُ السَّماءَ بأيديها وتتشكَّلُ بكلّ الأشكال وتجوبُ كلَّ الأنحاء ___ هل يُعقلُ أن يُطلبَ من هذهِ المخلوقات ( الخّارقة ) أن تتّخذَ لها أُسوةً ومثلاً ( إنساناً ) يمشي على الأرض بطيئاً، يتعثَّرُ ويغرقُهُ الماء وتكويهِ النّار، وإذا أغمضَ عينيهِ غفلَ عمَّا حولَهُ، وإذا عاشَ عاشَ عُمراً قصيراً، تحجبُهُ المرئيَّات وترهقهُ المسافات، ولا يرى إلاَّ ما تراهُ العيون ولا يلمِس إلاَّ الماديَّات؟!

ألا يكون في أمر الجنّ والعفاريت والمرَدة __ هذهِ المخلوقات الخَّارقة القدرات على ما يزعمون __ أن تتَّبعَ إنساناً لايملكُ من قدراتها الخارقة، ألا يكون في ذلك حصرٌ وتحديدٌ بل سجن لها ولقدراتها، وسعيٌ للتغيير والتَّبديلِ في طبيعتهم التي خُلِقوا عليها وتميَّزوا بها؟

إنَّ أدنى تفكُّرٍ وتأمُّل يُبدي لنا أنَّ هذا منطقٌ بديهيٌّ لا يحتاجُ إلى شرح أو بيان؛ إذاً لا بدَّ لكلّ رسولٍ أن يكون من جنس المرسل إليهم، وبذلكَ يمكّنهم أن يتعلَّموا منهُ ويدرّبوا أنفسهم على الإقتداء بهِ والسَّير على هديِ أقوالهِ وأفعاله.

وهذا هوَ المنطق الذي بيَّنهُ الله العليم الحكيم الخّبير في كتابه القرآن العظيم، وذلكَ في معرض ردّهِ على احتجاج النَّاس أن يبعث الله لهم بشراً رسولا، قالَ تعالى:

( وما منعَ النَّاسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهُدى إلاَّ أن قالوا أبعثَ اللهُ بشراً رسولاً) الإسراء95

فجاءَ بيان ربنا مبيّناً الحكمة في ذلكَ:

(قُل لو كان في الأرض ملائكة يمشونَ مُطمئنّين لنزَّلنا عليهم منَ السَّماء ملكاً رسولا)الإسراء 96

هذا وقد بيَّنَ لنا القرآن الكريم أنَّ طائفةً منَ الجن استمعوا إلى القرآن الكريم فآمنوا بهِ، أي صاروا بعدَ إيمانهم جنّاً مُسلمين: ( قُل أوحيَ إليَّ أنّهُ استمعَ نفرٌ منَ الجن فقالوا إنَّا سمِعنا قرآناً قرآناً عجبا * يهدي إلى الرُّشدِ فآمنَّا بهِولن نُشرك بريّنا أحدا ) الجن 2_3

تؤكد هذه الآيات أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم قد كانَ رسولاً إلى الجن أيضا، وبما أنَّهُ عليهِ الصَّلاة والسَّلام منَ البشَر من أبناء آدم عليه السّلام ، فلا بدَّ إذاً من أن يكونَ الجن أيضاً منَ البَشَر من أبناء آدم عليهِ السّلام، وإلاّ لما أرسلَ الله إليهم بشراً رسولا وذلكَ مصدّقاً لما جاءَ في كتابهِ القرآن: ( قُل لو كانَ في الأرض يمشونَ مُطمئنّين لنزَّلنا عليهم منَ السَّماء ملكاً رسولا ) الإسراء 96

الإشكال الثالث:

محمد صلى الله عليه وسلم وحدَهُ الرّسول إلى العالمين( الإنس والجن )

فعلى اعتبار أنَّ الجن مخلوقات في العالمين من غير البشر، هذا يعني أنّهُ لم يُرسل إليهم قبلَ سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم أحد منَ الرُّسُل، ولم يكن مطلوباً منهم أن يؤمنوا بأيَّة رسالة قبلَ الإسلام.

ثَبتض في الصّحيحين عن جابر عن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال:

( أُعطيتُ خمساً لمْ يُعطهنّ أحد منَ الأنبياء قبلي، وذَكَرَ منها: وكانَ النّبيّ يُبعَثُ إلى قومهِ خاصَّةً، وبُعثتُ إلى النَّاسِ عامّةً ).

إنَّ هذا الحديث يؤكّدُ أنَّهُ ما من نبيّ أُرسلَ قبلَ محمد صلى الله عليهِ وسلّم إلاّ إلى قومه حصراً‘ أمَّا محمّد عليهِ الصلاة والسّلام فهوَ وحده الذي أرسلهُ الله تعالى إلى العالمين، قالَ تعالى مخاطباً رسولهُ: ( وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمين ) الأنبياء 108

وكذلكَ الكتاب الذي أنزلهُ ربنا تباركَ وتعالى هوَ وحدهُ الكتاب الذي أنزلهُ الله للعالمين كافةً ليُؤمنوا بهِ ويهتدوا برسالتهِ، قالَ تعالى ( إن هوَ إلاّ ذكرٌ للعالمين ) يوسف 104

وفي هذا بيان واضح أنَّ القُرآن الكريم كتاب ورسالة إلى الجن أيضاً باعتبار أنَّ كلمة العالمين تشملهم لكونهم عالماً منَ العالمين.

وبما أنَّ القرآن قد نزلَ على النبيّ العربي محمّد صلى الله عليه وسلّم فهوَ إذاً وحدهُ الرَّسول إلى عالم الجن بالإضافة إلى الإنس.

( روى مسلم عن أبي هريرة أنّ رسولَ اللله صلى الله عليه وسلَّم قال:فُضّلتُ على الأنبياء بسِت، فذكرَ منها: ” وكانَ كلّ نبي يُرسلُ إلى قومهِ خاصَّةً وأُرسلتُ إلى النَّاسِ كافّةً )

وقالَ الحافظ في الفتح: وثبتَ في التَّصريح بذلكَ ____ يعني أنّهُ عليه الصلاة والسَّلام قد أُرسلَ إلى الجن، في حديث:

( كانَ النّبي يُرسلُ إلى قومهِ، وبُعِثتُ إلى الإنسِ والجن )

هذا الحديث فيما أخرجهُ البزّار.

وجاءَ في ( الفتح ) عن ابن عبد البر أنَّهُ لا خلافَ في أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلّم قد بُعِثَ إلى الإنس والجن) * فتح الباري في شرح صحيح البخاري

والسؤال هنا: معَ ثبوت أنَّ الرّسول وحدَهُ بُعثَ إلى الجنّ وأنّ وفدَ الجن الذين أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم وآمنوا بهِ كانَ منهم قوم منَ اليهود الذينَ آمنوا بموسى والتوراة، وكانَ قومٌ آخرون منَ النّصارى الذينَ آمنوا بالمسيح عليه السّلام، فمعَ الانتباه إلى حقيقة أنَّهم كانوا منَ الجن وأنَّ الجن ليسوا من قومِ موسى ولا من قوم عيسى ____ على أساس أنّهم ليسوا بشراً ____ وأنَّ موسى وعيسى لم يُرسلا إلاّ إلى قوميهما حَصراً، فكيفَ إذا آمنَ هؤلاء الجنّ برسالة لم يختصّوا بها، ورسول لم يُرسَل إليهم؟

وأمّا عن حقيقة أنَّ هؤلاء الجن كانوا يهوداً ونصارى فإليكم البيان:

جاءَ في سورةِ الأحقاف على لسان نفرٍ منَ الجّن الذينَ استمعوا إلى تلاوة القرآن أنّهم مَضَوا بعدَ استماعهم إلى قومهم يُنذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان بالكتاب الذي وصفوهُ بأنّهُ ( أُنزلَ من بعد موسى )

( قالوا يا قومنا إنَّا سمعنا كِتاباً أُنزِلَ من بعدِ موسى مصدّقاً لما بينَ يديهِ يَهدي إلى الحقّ وإلى طريق مُستقيم، يا قومنا أجيبوا داعيَ الله وآمنوا بهِ يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِركم من عذابٍ أليم ) الأحقاف 31_ 32

إنَّ قولَ نَفر الجن: ( سمعنا كتاباً أُنزِلَ من بعدِ موسى)

ووصفَ هذا الكتاب بأنّهُ: ( مُصدّقاً لما بينَ يديه )

يدلّ دلالةً واضحةً على أنَّ هذا النَّفر من الجن لم يكونوا فقط مؤمنين برسالة موسى عليه السّلام بل كانوا أيضاً على علم بأحكام التّوراة وتفصيلاتها، وهذا يؤكد أنّهم كانوا منَ اليهود المصدّقين بموسى عليهِ السّلام والتوراة التي أنزلها الله تعالى عليه.

وفي معرض تفسير قولهِ تعالى:

( وإذْ صرَفنا إليكَ نفراً منَ الجن يستمعونَ القُرآن فلمّا حَضَروهُ قالوا أنصِتوا فلمَّا قُضيَ ولَّوا إلى قومهم منذرين ) الأحقاف 30

قالَ المفسّرون: إنَّ نفرَ الجنّ المُشار إليهم هُنا هم من يهود “نصيبين”، أو كما قال بعضهم منَ الموصل أو من نينوى في العِراق ( راجع تفسير روح البيان )

ونحن وإن لم نكن في معرض تفسير هذهِ الآيات الآن، ولكن ما نريدُ بيانهُ من هذهِ الآيات الكريمة هوَ أنَّ هؤلاء النَّفر من الجن كانوا منَ اليهود المؤمنين بشريعة موسى عليه السّلام، كما تبيَّنَ معنا.

وأمّا في سورة ” الجن “فنجدُ أنَّ نفرَ الجّن الذينَ استمعوا إلى القرآن وآمنوا بهِ وأسلموا وأعلنوا توحيدهم ونفوا أن يكونَ لله صاحبةً أو أن يكونَ لهُ ولد كما يزعمُ المشركون من النّصارى، قالوا: ( وإنّهُ تعالى جدّ ربنا ما اتّخذَ صاحبةً ولا ولدا ) الجن 4

وفي هذه الآية بيان واضح يشير إلى حقيقة إنكار هؤلاء النّفر منَ الجّن للزّعم المُشرك أن يكونَ لله ولدٌ كما يزعمُ الذينَ يقولونَ إنَّ الله اتّخذَ ولدا __ سبحانه __ وأنّ مريم عليها السلام قد ولدت هذا الولد.

فحقيقة الأمر إذاً أنَّ هؤلاء النَّفر منَ الجن كانوا منَ النَّصارى الذينَ آمنوا بعيسى عليه السلام، كما كان نفر منَ الجن، المذكورين في سورة الأحقاف، منَ اليهود الذينَ آمنوا بموسى عليه السلام.

والسُّؤال هنا قد علمنا أنَّ رسالة موسى وعيسى عليهما السلام لم تكن عالميَّة، بل كانت حصراً لقوميهما من بني إسرائيل، فكيفَ إذاً آمنَ هؤلاء الجن برسالة موسى وعيسى عليهما السلام إذا لم تكن تعنيهم ولم يكن مطلوباً منهم الإيمان بها؟

إنَّ هذا يُثيرُ إشكال أنَّ الجن كانوا مأمورين باتّباع موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا لا يصحّ إلاّ إذا كانَ الجن منَ البشر __ منَ الناس __ من قوم موسى وعيسى عليهما السلام.

ويؤكّد القرآن الكريم أنَّ التوراة التي أُنزلت على موسى عليه السلام وبيّنها في الإنجيل عيسى عليه السلام قد أنزلهما الله هدى للناس فقط، قال تعالى:

( وأَنزَلَ التوراةض والإنجيل * من قبلُ هدى للنّاس ) آل عُمران 4_5

فإذا كانَ المطلوب منَ الجن أيضاً أن يؤمنوا بالتوراة والإنجيل فهذا يعني أنَّ الجن منَ النّاس من أبناء آدم وإلاّ فإنَّ هذا الإشكال لا يزالُ يستلزمُ الحلّ لأنَّ القرآن الكريم لا تناقضَ فيهِ ولا اختلافال

الإشكال الرابع:

النّاسُ وحدهم هم وقود النَّار، فكيفَ يدخلها الجن أيضاً؟؟

ذكرَ القرآن الكريم دارَ العذاب التي يورد النّاسُ أنفسهم إليها بذنوبهم وخطاياهم وهيَ النّار التي يأمرنا ربنا أن نَقي أهلَنا وأنفُسَنا عذابها، فقال عزّ وجل:

( قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودُها النَّاسُ والحجارة ) التَّحريم 7

نلاحظُ هنا بكلّ وضوح أنّ القرآن الكريم يبيّنُ حقيقةَ أنَّ الذينَ يدخلونَ في عذاب النَّار فيكونوا وقودها هم ” الناس ” حصراً والحجارة.

وتؤكّدُ آية كريمة ثانية هذهِ الحقيقة حيثُ نجدُ في سورة البقرة قول ربنا عزَّ وجل:

( فاتقوا النَّارَ التي وقودها النَّاسُ والحجارة ) البقرة 25

إذاً النَّاس، دونَ بقيّة خلق الله تعالى، هم وحدهم عُرضةً لأن يُدخلوا أنفسهم عذاب الله ونارهِ، وهذا ما يؤكّدُهُ لنا القُرآن الكريم كما رأينا، والإشكال ينشأ حينَ نقرأ في القرآن الكريم أنَّ الجن أيضاً يدخلونَ النَّار فيكونونَ وقودها، جاءَ في سورة الأعراف:

( قالَ ادخلوا في أُمم قد خلت من قبلكم منَ الجنّ والإنسِ في النَّار ) الأعراف 39

ها نحنُ نرى هنا أنَّهُ بالرّغم من تأكيد القرآن الكريم أنَّ وقود النَّار هم النَّاسُ حصراً، فإنّهُ يذكرُ أنّ الجنّ أيضاً يدخلونَ النّار ويُعذّبون بكفرهم وذنوبهم، وفي هذا تناقُض واختلاف لا يزولُ إلاّ إذا كانَ الجن فئة منَ الناس تختصُّ بصفات معيَّنة.

الإشكال الخامس:

هل الجن مخلوقات خارقة القوى أم أنَّها في غاية الضَّعف؟

يعتقدُ عامَّة النَّاس أنَّ الجنّ يملكونَ قوى خارقة يعجزُ عن مثلها الإنسان، فهُم يتنقَّلونَ بسرعةٍ تفوقَ لمحَ البصر، ويصعدونَ إلى السَّماء يلمسونها ويسترقونَ السَّمعَ منها، ويدورونَ حولَ الأرض في لحظات يأتونَ بالعلم الخفيّ ويخبرونَ بهِ إخوانهم منَ الإنس الذينَ يستحضرونهم بعزائم وكلمات خاصّة على حدّ زعمهم !!

ويقدّم هؤلاء الدّليل على اعتقاداتهم هذه بما فهموهُ هم من بعض آيات القُرآن الكريم، فهم يستدلُّونَ على سرعة الجن الخارقة منَ الآية الكريمة التي تحدّثت عن أمر سليمان عليه السلام لبعض جنّهِ أن يأتوهُ بعرشِ الملكة بلقيس.

تقولُ الآية: ( قالَ عفريت منَ الجن أنا آتيكَ بهِ قبلَ أن تقومَ من مقامك ) النمل40

معنى كلمة عفريت: النّافذُ في الأمر المبالغ فيهِ معَ دهاء …. ويُقال رجل عفريت: أي شديد محيط المحيط مادة ( عفرَ )

فهذا دليل __ لديهم __ على السرعة الخارقة لعفاريت الجنّ، ويقولونَ بأنَّ ( الذي عندهُ علم من الكتاب) أي كتاب تسخير الجن على حدّ زعمهم، كانَ أقدر منَ العفريت ذاته وأشدَّ سرعةً في إحضار عرش الملكة بلقيس ___ على ما يفهمون.

ويستدلّونَ على أنَّ الجن يصعدونَ إلى السَّماء يلمسونها ويسترقونَ السَّمعَ من خلالها بالآية الكريمة:

( وأنّا لمسنا السَّماءَ فوجدناها مُلئَت حَرَساً شديداً وشُهُبا * وأنَّا كُنَّا نقعدُ منها مقاعدَ للسَّمعِ فمن يستمع الآنَ يجد لهُ شهاباً رصدا ) الجن 9- 10

وكذلك يستدلّونَ بالآية الكريمة:

( ولقد زيَّنَّا السَّماءَ الدُنيا بمصابيح وجعلناها رُجوماً للشّياطين ) المُلك 6

ويقولونَ بأنَّ الجنّ تعملُ أعمالاً خارقةً على كوكب الأرض أيضاً، فهيَ تبني الأبنية العظيمة، وتغوصُ في أعماق البحار تُخرجُ كنوزها، وأنّها هيَ التي شادت للملك سليمان بيتَ المقدس، وهيَ التي بنت مدينة تدمر في الصَّحراء، كما أنَّها شادت الكثير منَ الأبنية المشهورة في أوربا على حد زعمهم.

ويؤيّدُ هؤلاء اعتقادهم بقدرة الجن على عمل الخوارق بالآيات الكريمة التي ذكرت تسخير الجن لسليمان عليهِ السلام قالَ تعالى:

( فسخَّرنا لهُ الرّيح تجري بأمرهِ رُخاء حيث أصاب* والشَّياطين كلَّ بنَّاءٍ وغوَّاص * وآخرينَ مقرَّنين في الأصفاد ) سورة ص 37__ 39

وقالَ ربنا عزَّ وجل أيضاً ( ومنَ الجنّ من يعمل بينَ يديهِ بإذنِ ربّهِ ومن يزِغ منهم عن أمرنا نُذقهُ من عذاب السَّعير * يعملونَ لهُ ما يشاءُ من محاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجواب وقدورٍ راسيات ) سبأ 14_ 15

من خلال الفهم الخاطئ لهذهِ الآيات الكريمة تخيَّلَ المتخيّلونَ قُدُرات عجيبة للجن تُناقضُ بيانَ القرآن الكريم وأحاديث سيّدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

والإشكال هُنا يكمنُ في أنَّهُ قد وردَ في مجموعة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنَّ الجن أضعفُ بكثير من أن تقدرَ على أداءِ عملٍ ولو كانَ سهلاً بسيطاً كفتحِ باب مغلق، أ, حتى كشفِ قِدرِ طعام مُغطَّى، وهذا يؤدي إلى دحضِ الاعتقاد بتملُّك الجن لقدرات خارقة تفوق قدرة البشر.

جاءَ في صحيح مسلم: ( عن جابر عن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غطّوا القدور وأوكوا السّقاء، وأغلقوا الأبواب وأطفئوا السّراج فإنَّ الشّيطانَ __ وفي رواية أخرى فإنَّ الجنَّ __ لايحلّ سِقاءً، ولا يفتحُ باباً ولا يكشفُ قدراً ).

لإإذا كانت الجن والشَّياطين أعجز من أن تفتحَ باباً مُغلقاً أو أن تكشفَ إناءً مغطَّى، فكيفَ تكونُ لها تلكَ القدرات الخارقة المزعومة ؟؟!

وكيفَ إذاً يمكنُ للشّياطين التي تعجزُ عن فتح الباب المغلق أن تدخلَ إلى بيوت النَّاس لتوسوسَ في صدورهم إذا كانوا قد أغلقوا أبوابهم جيّداً ولم يفتحوها للجن والشياطين التي لا تقدر أن تفتحَ باباً مغلقاً؟؟

الإشكال السّادس:

لماذا لم ينصر الجن المسلمون رسولَ الله وأصحابهُ في جهادهم أثناءَ ذودهم عن دينِ الله؟

أرسلَ الله رسولهُ محمداً صلى الله عليه وسلَّم ليُخرجَ النَّاسَ منَ الظلمات إلى النّور، فأبت شياطين الإنس والجن إلاّ أن تكفُرَ بدعوته والنّور الذي أُنزلَ عليه، وتآمروا وكادوا للقضاء عليه وعلى الإسلام حتى أنَّهم أعدُّوا العُدّةَ وجمعوا الفرسانَ والصَّناديد وزحفوا بالخيل والرجال مدجّجينَ بأمضى السّلاح للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلّم والذينَ آمنوا معهُ، محاولينَ بذلكَ القضاء على دين الله الإسلام حتى لا تقوم لهُ، بعدَ ضربتهم التي جمعوا لها قائمة.

فقامَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذينَ آمنوا بالله الواحد يذودونَ عن الإسلام بقلب المؤمن الواحد والجسد الواحد يضربونَ المعتدين منَ الكّفار بشدَّة وهم ذوو القلوب الفياضة بالرّحمة إلى حدّ أنَّ الله تعالى قد وصفهم في قرآنهِ الكريم:

( أشدَّاء على الكّفار رحماء بينهم ) الفتح 30

ولا شكَّ في أنَّ نصرَ محمّد صلى الله عليه وسلَّم ودينه الإسلام كانَ من أهم الواجبات التي كان على المسلمينَ المؤمنين حينئذٍ أن يقوموا بها دفاعاً عن دينهم ضدَّ هجمة الكّفار والمشركين الجّاهلية الظالمة التي كانت تريدُ محوهم واستئصال شَأفتهم.

ولقَد هبَّ المسلمون المؤمنون لنصرة دين الله عزَّ وجل كما أمرهم ربهم، وقد شهدَ لهم التَّاريخ بإيمانهم وانتصارهم لدين الله وبذلِهم النَّفس والمال وكل ما كانوا يملكون في سبيل ذلك، وهم الفقراء الذينَ كانوا قلَّةً مُستضعفينَ في الأرض، ومعَ ذلك فقد وقفوا بإيمان صادق لمواجهة الكثرة من صناديد قريش وأبطالها وغيرهم من أعداء دين الله ورسوله.

ولقد كانَ الأمر منَ الله تعالى بالنّفرة لنصرة دين الله واضحاً بيّناً ومُلحّاً في دعوتهِ لجميع المؤمنين دونَ استثناء لينفروا في سبيل الله، قالَ تعالى:

( يا أيّها الذينَ آمنوا ما لكم إذا قيلَ لكم انفروا في سبيلِ الله اثَّاقلتم إلى الأرض ) التوبة 39

والإشكال هنا هو: على فرض أنَّ الجن الذينَ آمنوا بالإسلام بعدَ أن استمعوا للقرآن كانوا يملكونَ كغيرهم منَ الجن القوى الخارقة، فلماذا لم يهبّوا بقدراتهم الخارقة الخفيَّة لنصر محمّد صلى الله عليه وسلم طاعةً لأمر الله تعالى في القرآن الذي آمنوا بهِ، فينفروا في سبيلهِ عزَّ وجل منتصرين لدينه ضدَّ هجمة قريش والقبائل المتحالفة معها والتي كانت تهدفُ إلى تدمير محمد صلى الله عليه وسلم ودينهِ الإسلام؟

إنَّ التّاريخ ورواة الأحاديث لم يذكروا لنا شيئاً عن مُشاركة ولا حتى جنّي مسلم واحد في الذَّود عن دين الله تعالى معَ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ، لماذا؟

أليسَ القرآن كتاب المؤمنين منَ الجنّ أيضاً، على ما يقولون؟

ألم يكن منَ الواجب عليهم طاعة أمر الله عزَّ وجل فينفروا في سبيله لنصرِ دينهِ ودعوته؟

لا بدّ منّ التفكُّر .

لو أرادَ الدارس المحقق أن يعرض كل الإشكالات الإيمانيَّة المترتّبة على الاعتقاد بالجن والشّياطين على أنّها مخلوقات شبحيّة خارقة القوى، على ما يزعمون للزمَهُ إفراد كتاب خاص يتمم فيهِ الإشكالات جميعها ومن كافّة جوانبها.

وعملاً على حل جميع الإشكالات الإيمانيَّة المترتّبة على الفهم الخاطئ لحقيقة مفهوم الجن والشياطين، لابدَّ من إيراد المعنى اللغوي للفظتي الجن والشّياطين:

قالَ الله تعالى: ( نزلَ به الروح الأمين * على قلبكَ منَ المُنذرين * بلسان عربي مُبين) الشعراء 194_196

إذاً لا يصحُّ فهم القرآن وبيانهِ وأحكامهِ إلاّ على أساس الأخذ بالمعنى اللغوي الصَّحيح لكلّ لفظة ومفردة، وفي سياقها الذي وردت فيه.

جاءَ في لسان العرب مايلي:

جن الشَّيء يجنّهُ جناً: سترَهُ.

وكل شيء سُترَ عنكَ ( أي هوَ جنيٌ بالنّسبة إليك ) كما أنَّ ما خفيَ عنكَ يكونُ خفيَّاً، فكذلكَ ما جنَّ عنكَ يكونُ جنيَّاً.

وجنَّهُ الليلُ يجنهُ جنوناً يجنّهُ جنوناً وأجنَّهُ: سترَهُ.

وبهِ سُميَ الجنّ لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار ___ فأي شيء خفيَ عنكَ هو بالنسبة لكَ جني

أي أنَّ الجني ليسَ مخلوق خارق لامرئي إنما أي شيء مما نألفهُ إذا خفيَ عنَّا يصبح اسمه جني.

ومنهُ سُميَ الجنين جنيناً لاستتارهِ في بطنِ أمِّهِ.

وجنَّ الليلُ وجنونهُ وجَنانهُ: شدَّة ظلمتهِ وادلهمامه.

قالَ تعالى ( فلمّا جنَّ عليهِ الليلُ رأى كوكباً ) الأنعام 77

ويقالُ لكلّ ما سُترَ عنكَ جن وأجنّ.

وجنَّ الميتَ جنّاً وأجنّهُ: سترَهُ.

الجنن: القبر لسترهِ الميِّت.

والجنن أيضاً الكفن.

والجنين: المقبور.

والجنان: القلب لاستتاره في الصَّدر.

وربما سُميَ الروح جناناً لأنَّ الجّسم يجنهُ.

الجنّ: القلب.

المجن: الوشاح.

المجن: الترس لأنه يستر خلفهُ من يحمله.

والجِنة: السُترة __ ويُقالُ استجنَّ بجنة أي استترَ بسترة.

وقيلَ كل مستور جنين، حتى قيلَ حقدٌ جنين _ وضغن جنين أي خفي.

والجُنة: الوقاية، وفي الحديث الشَّريف: الصَّومُ جُنَّةٌ.

وجَن الناس: معظمهم، لأنَّ الدَّاخل فيهم يستتر بهم.

وجنان الناس جماعتهم وسوادهم ودهماؤهم.

الجنَّة: الجنون وطائف الجن.

الجان: ضرب منَ الحيَّات.

الجان: الشيطان.

وكانَ أهل الجاهليَّة يسمُّونَ الملائكة جنّاً لاستتارهم عن العيون.

وجِن الشَّباب: أولهُ، وقيلَ جدَّتهُ ونشاطهُ.

ويُقالُ كانتَ ذلكَ في جنّ صِباه أي في حداثَتهِ.

وكذلكَ جنَ كل شيء: أوّل شدّاته، وجن المرح كذلك.

وجن النبت: زهرهُ ونَورهُ.

وقد تجنَّنَت الأرض وجنت جنوناً.

جنَّ النَّبت جنوناً: غلُظَ واكتهلَ وطالَ والتفَّ وخرجَ زهره.

وأرض مجنونة أي مُعشِبة لم يرعها أحد.

إذاً كما لاحظنا أنَّ هُناكَ جنّ النَّاس، وجن الشَّباب، وجن النبات، وجن كلّ شيء، أي أنَّ لكلِّ شيء جنهُ وحالته العادية.

وتحتَ مادة ” شطنَ” جاءَ في معجم لسان العرب مايلي:

شطنَ: بَعُدَ، وأشطنه أبعدَهُ وفي الحديث الشَّريف: ( كل هوى شاطن في النَّار )

الشاطن: البعيد عن الحق.

وشطنت الدَّار تشطنُ شطوناً: بعُدت.

ونيَّة شطون: بعيدة.

الشيطان: معروف، بأنَّهُ كل عات متمرِّد منَ الجن والإنس والدّواب.

إذاً: كل عات متمرّد منَ النّاس والحيوان هوَ شيطان وبالتالي هوَ حني أيضاً.

وجاءَ في محيط المحيط:

سميَ الشَّيطانُ شيطاناً لبُعدهِ عن الحق وتمرُّده.

وشاطَ الشّيء يشيط شيطاً وشياطةً وشيطوطةً: احترقَ ومنهُ الشَّيطان.

وقيلَ هوَ من شطنَ ومعناهُ: البعيد عن الرَّحمة ومعناهُ الهالك.

وأشاطهُ إشاطةً أحرقهُ.

وأشاطَ فلاناً: أهلكهُ.

وهكذا نجدُ من أصول اللغة العربية وجذورها ما اشتُهرَ منَ المعاني لدى العرب

أنَّ كلمة ( الجن ) هيَ منَ الكلمات المشهورة العادية والشَّائعة بينَ العرب، والتي كانت تُطلقُ على كل ما استتر عن العين مهما كانَ جنسهُ ونوعهُ، فهيَ تعني الملائكة وتعني الناس وكذلكَ تعني الدواب والحيَّات والثعابين، كما وجدنا أنّض اشتقاقات هذه الكلمة تطلق أيضاً على الأرض وبعض النباتات وحتى الأشياء والأمكنة المستورة كالجنَّة، والمجن ( أي الترس )، والمجنة ( أي القبر ) وغير ذلكَ مما يدخل فيه التميُّز بالقوَّة والشدَّة والستر والتستُّر.

ولهذا فقد جاءَ في كتب المؤلفين والناحثين أنَّ الكائنات الحيَّة الدقيقة الخفيَّة عن أعين الناس ( كالجراثيم والميكروبات مثلاً ) هيَ أيضاً منَ الجن ويطلق عليها اسم ” الجن” لاستتارها عن أعين الناس وتعذر رؤيتها بالعين المجرَّدة بالرغم من وجودها المادي العادي.

فالأثرياء جن لعدم تواجدهم بينَ عوام الناس وكذلك كلمة جن تُطلق على القادة والفنانين وأصحاب الصنائع القوّية، وأصحاب القوّة والبأس والسلطان والناشطينَ في الخفاء عن أعين النّاس كالغرباء والجواسيس المندسين بينَ الناس على غير علم أو دراية بهم.

ملاحظة: إنَّ إطلاق لفظة الجّن على إنسان ما لاتعني الذم أو القدح به، بل تعني وصفهُ بالتّميُّز والقدرة والقوّة …….إلخ.

بينما نجد أنَّ لفظة الشّيطان تعني الذم حتماً والبعد عن الحق، فكل بعيد عن الحق هو شيطان.

أ. محمد منير إدلبي

سلسلة الإسلام الذي يجهلون

كتاب أبناء آدم من الجن والشّياطين.

______________________________________________________________________________

المراجع:

[1]كتاب أبناء آدم من الجن والشياطين للأستاذ محمد منير إدلبي.

[2] كتاب الإنسان بين السحر والعين والجان لمؤلفه الأستاذ زهير الحموي.

[3]كتاب الجن والشياطين بين العلم والدين للأستاذ: رياض العبدالله.

[4] كتاب الإيمان بالملائكة: للأستاذ عبد الله سراج الدين.