حقيقة الإسراء والمعراج:

مغــزى المعــراج:

الواقع أنّ هذا الكشف الروحاني العظيم يتضمن الإشارة الإعجازية إلى ما سيقابل الإسلام من الانتشار خارج الجزيرة العربية، وسيبدأ ذلك في المنطقة بين نهري الفرات والنيل.

وأن ازدهار الأمة الإسلامية ورفعة شأنها سيكون على يد هذه الشعوب، وأن الخير الخلقي والروحاني سوف يعم أهل المنطقة وهو نابع من ظلال الدوحة الروحانية العظيمة التي ارتقى إليها نبي هذه الأمة العظيم صلى الله عليه وسلم ويربطهم بالفلاح الأخروي والازدهار الدنيوي.

إن إدراك أحداث المعراج إدراكا صحيحاً يمكّننا من تصوّر عظمة المعراج وحكمته ومغزاه ومراميه القريبة والبعيدة، وكل ذلك يصعب على من يظنون أنّ المعراج أو الإسراء كان رحلة بالجسد المادي؛ فضلا عما يثيره ذلك من اعتراضات يتعذر الإجابة عليها..

فمثلا يقال لأصحاب نظرية الرحلة الجسدية المادية: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى رؤية النيل والفرات ليتحقق من آيات ربه الكبرى؟ أليس الأجدر بذلك جماعة من الكفار.. إذ أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يشوبه أي نقص أو ضعف.. وما قيمة أن يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى على صورة تخالف شجر النبق المألوف من حيث ضخامة الثمار وكبر الأوراق؟

مغزى سدرة المنتهى:
إن الإجابة على كثير من التساؤلات التي من هذا القبيل لا تتأتى إلا إذا لجأنا إلى التأويل وسلمنا بأن سدرة المنتهى ليست نباتا دنيويا ماديا وإنما هي رمز إلى أمور أخرى روحانية.

ولفظة سدرة مشتقة من (سدر) يقال

_سدر الشعر: أي سدله،

_ وسدر الثوب أي أرسله طولا،

_ وسدر الرجل أي تخير،

والسدر شجر النبق، والسدر البحر.
والمقصود من تجلي رب العزة تبارك وتعالى للمصطفى صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى أن النبي صلى الله عليه وسلم قريب إلى الله تعالى قربا يعجز الإنسان عن تصوره، أو يعني أن الوحي الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بحر لا ساحل له يزخر بالمعارف والحقائق الإلهية، أو أن المعارف والعلوم الإلهية التي كشفت للرسول صلى الله عليه وسلم هي كالدوحة العظيمة التي يستظل الإنسان بظلها فتحميه من شدة الحر؛ وينشد سالك الطريق الروحانية في جانبها الراحة ويطرح عن أطراف جسمه التعب والعناء.

كما أن من خصائص أوراق السدرة أنها تُستعمل في تحنيط جثة الميت للمحافظة عليها من الفساد، فالمعنى أن التعاليم التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم من وحي الله تعالى لا يتطرق إليها الضياع أو النسيان أو التلاعب في نصوصها لأنها في حفظ الله تعالى مصونة من التحريف.. ومن ثم فهي بدورها تحفظ المتمسك بها من الفساد الخُلُقي والانحطاط الروحاني؛ وهي صالحة لذلك على مر العصور.

كما أنّ  (سدرة المنتهى) تتضمن إشارة غيبية إلى صلح الحديبية الذي انتهى به الصراع الشديد بين المصطفى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من جانب، وبين قريش من جانب آخر.

إن (سدرة المنتهى) التي ترمز إلى ما تفضّل الله تعالى به على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمته من تعاليم وإرشادات وحكم وشريعة إنما هي الطريق إلى الجنة.. جنة الدنيا من فلاح وازدهار وسعادة وارتقاء، وجنة الآخرة التي يعجز اللسان والبيان والتصور عن وصف ما أعده الله تعالى فيها من أسباب النعيم والسعادة. وكلما ازداد المؤمنون استمساكا وعملا بشريعة الله تعالى ازدادت حياتهم جمالا وكمالا ووجدوا من الله تعالى تغيرات وترقيات تجل عن الوصف.

وتقرر الآيتان:

ٍ{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم:18-19)

أن الكشف كان كشفا جليا، لم تكل بصيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم تخطئ ولم تنحرف عن رؤيته.

لقد كان كشفا يتضمن آيات ربانية عظيمة، بل هي العظمى بين الآيات.. لأنها تكشف له وللناس جميعا عن حقيقة محمد ورسالته؛ ومنزلته عند الله تعالى؛ ومكانة شريعته وكتابه بين الشرائع والكتب، ومستقبل دعوته ومصير أمته.

آيات سيشهدها الناس؛ ويراها الأعداء قبل الأتباع.. سيرى الجميع صدق رؤياه، وتبين لهم كماله الخلقي.. كمال تشريعاته.. كمال أتباعه.. فوزه والمعاصي التي تقع من بعض المنتسبين إلى أمته، العلاج الرباني لكل الشرور بإقامة الصلاة التي وإن قل عدد مراتها فإنها مباركة الأثر في ترقية أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصيانتهم من الزلل إن واظبوا عليها، وجعلوا منها صلة مستمرة مع رب العزة تبارك وتعالى..

نعم هذه هي الآيات الكبرى والدلائل العظمى على أن محمدا صلى الله عليه وسلم له حديث وشأن مع الله تعالى.. لا يضاهيه فيهما إنس ولا جان.

تعبير لأحداث أخرى
هكذا الحال أيضا بالنسبة للأحاديث العديدة الخاصة بوصف الإسراء والمعراج علينا أن نفهم حقيقتها ومعانيها على ما يوافق تعبير الرؤيا..

فمثلا قد تعني رؤية بيت حصول الرائي على العز والفلاح؛ وتعني الدابة (أي البراق) أن الراكب سينال مرتبة عالية بعد سفره، ويعني الصعود إلى السماء الأولى أن حياة الرائي تمتد إلى الشيخوخة وأرذل العمر، وبلوغ السماء الثانية يرمز إلى أن الرائي يكون عالما حكيما، وتعني السماء الثالثة العزة والإقبال في الحياة الدنيا. وتعني السماء الرابعة قرب السلطان والحصول على السُلطة؛ وتعني السماء الخامسة الفزع والاضطراب والمخالفة والحرب، وتعني السماء السادسة حصول الرائي على الجاه العريض والسعادة الدائمة؛ ويرمز بلوغ السماء السابعة أن الرائي يبلغ درجة عالية من القدر والمنزلة الرفيعة بحيث لا يدانيه أحد.

وعلى العموم فإن فتح أبواب السماء يدل على قبول الدعاء والبركة والخير.

وقد تحققت فعلا كل هذه الأمور و الأنباء للرسول صلى الله عليه وسلم .
أما المشاهد الأخرى فهي لا تحتاج إلى تأويل، إذ أنها تصور بعض الخطايا التي سوف يقع فيها الضعفاء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو التي يقع فيها معارضوه فعلا، أو التي ستقع من أعداء أمته في المستقبل.
وقد عُرضت المشاهد بطريقة رائعة تبين مدى ما تمثله هذه الخطايا من قبح في سلوك الإنسان، ومدى ما ينتظر مرتكبها من عقوبة دنيوية إذ ينفر منهم ذوو الطباع السليمة؛ ومدى ما يستحقونه من عقاب أخروي بسبب استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.

الإســـراء رؤيا
وفيما يتعلق بالإسراء: فقد سماه القرآن المجيد في نفس سورة الإسراء (الرؤيا) حيث قال:

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء:61)
وإذا ادعى بعض المفسرين أن (رؤيا) تعني أيضا رؤية العين فإن القرآن المجيد استعملها بمعنى الكشف في مواضع عدة:

{لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} (يوسف:6)

{وَقَالَ يَآ أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (يوسف:101)

{وَنَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصافات:105)

_وجاء في لسان العرب وأقرب الموارد: الرؤيا ما رأيته في منامك.

_وفي مجمع البحار: الرؤيا ما رأيته في المنام. وقد ذهب بعض الصحابة رضي الله عنهم وعلماء الحديث إلى أن الإسراء كان كشفا ورؤيا فقط لا رؤية عين، وقد رَوَى ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية إذ سُئِلَ عن مسرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كانت رؤيا من الله صادقة) (المنثور ج 4).

ورَوَى ابن إسحاق قال: حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (ما فُقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرَى بروحه) (التفسير الكبير).

أما كون هذه الرؤيا فتنة فقال ابن إسحاق: قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن إسلامه لذلك – أي الإسراء:

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (سيرة ابن هشام ج 1).

ويقول البعض: لو كان الإسراء روحيا لما اعترض كفار قريش الذين حكى لهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولكن فات هؤلاء الظروفُ التي حكى فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم وطبيعةُ الكشف. إن ما رآه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا من قبل ليس من قبيل الرؤيا المنامية التي يراها النائم.. وما كان له ليحكي ما يراه في منامه، وإنما ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم كان كشفا رآه وهو كامل الحواس.. لأنه وحي إلهي.. فهو أقوى في حقيقته مما يقع لغيره من الناس. كل ما في الأمر أنه لا تصحبه حركة مادية؛ وأنها مشاهده رمزية تستلزم التعبير والتأويل.

المرجع:
(مأخوذ من الموقع العربي الرسمي للجماعة الأسلامية الأحمدية)