دخلت أم ناصر إلى مطبخها وهي سعيدة مستبشرة، فقد استقبلت ابنها الأكبر الذي تزوج’ وترك’ المنزل منذ سنين، وكان’ يمر عليها كل شهر تقريبا’ ليطمئن عليها، غالبا” كان’ لا يطيل وجوده عندها ! أسرعت في إعداد الشاي الذي كان يحبه وبدأت في وضع بعض الفطائر بجانبه فهذه الفطائر كانت حريصة على تواجدها في منزلها دائما فهي تعرف مدى حب ابنها لها وعندما كانت تراها كانت تطيل النظر إليها وتمر أمام عينيها ذكريات كلها طفولة وبراءة لابنها ناصر الذي كان دائما يبادرها قائلا: أمي أين فطائري؟ سرحت أم ناصر وقالت في نفسها: يا ليته يجلس معي هذه الليلة فقد اشتقت له كثيرا”…تبرق عيناها وتتنهد تنهيدة يخرج هواؤها ساخنا” كسخونة الشوق الذي يملأ قلبها لأنس ابنها وحبيبها ناصر قائلة”: كم كان ناصر بارا” بي منذ صغره وكم كان’ لا يطيق الابتعاد عني ، كان أنيسي ورفيقي خصوصا” بعد وفاة والده فكنت أشعر بدفء أركان حجرتي الأربعة عندما  يملؤها ضجيجا”

وضحكا” …ولكن لا أدري لماذا لم يعد يهتم بوجوده معي كثيرا” ؟!…

وهنا يأتي صوت يعيدها إلى عالم الواقع قائلا”: أمي …تتنبه قائلة”: ناصر حبيبي دقيقة” واحدة” وسوف يكون عندك الشاي الساخن والفطائر التي تحبها. يعاود الصوت أمي، ولكنني مشغول جدا” أمي إلى اللقاء، ويتحرك مسرعا” نحو الباب لم يمهلها حتى لتسلم عليه وتلقي عليه نظرة قبل’ أن يرحل’ فقد كانت مشتاقة” لحضن ولدها وأنسه لها في وحدتها وصمت الجدران الأربعة.

تعود أم ناصر حزينة وتجلس وسط الغرفة ذات الأركان الأربعة وفي عينيها دموع وفي قلبها ألم ويعود صوت صفير الوحدة إلى أذنها كل شيء صامت لا حراك له ، إنها جدران الغرفة التي اعتادت على صمتها، تنظر ناحية باب غرفة قد زين بابها صورة قد رسمها ناصر عليه منذ صغرة ولحبها له فقد تركتها كما هي ورفضت إزالتها حتى بعد رحيله عنها عندما صار’ مهندسا” وتزوج’ وترك’ البيت، تسمع صوته ينادي وكأنه الواقع : أماه لا أستطيع النوم بمفردي أريدك معي، فقد كان رغم كبره لا ينام إلا بعد أن تجلس أمه بجانبه وتؤنس وحدته  ، فلماذا بخل’ عليها بهذا الأنس عندما احتاجته! تلتفت إلى الكرسي الممتد جانبها فطوله يحكي قصة المشوار الطويل الذي قضته مع زوجها رحمه الله، حتى ربيا ناصر وأصبح مهندسا” كبيرا” ورحل’ عن البيت.

وجدت أم ناصر جزءا” من جريدة جذبها منظر صورة فيها لسيدة في عمرها تمد يدها وتبتسم وتقول: مرحبا بك في دار المسنين “إحسان”، هنا قالت في نفسها: دار المسنين! ولم لا؟ فيها من أتحدث معهم، أصاحبهم ويشاركونني خريف حياتي. وهنا قررت أن تذهب في الصباح إلى دار المسنين .

نزلت من السيارة التي أوصلتها إلى دار المسنين، وسارت بخطا” بطيئة” حتى اقتربت من الباب وهنا وجدت وجوها” لم ترها من قبل ولكن هذه الوجوه كلها تبتسم وترحب.

وفي الصباح وجدت أم ناصر نفسها في حجرة وبجانبها امرأة تكبرها قليلا” وبدأت رحلة’ حياة جديدة لتعيش بين جدران أربعة ولكنها في هذه المرة لم تكن جدرانًا صامتة.

بقلم روضة سعيد عبد الهادي

الدوحة في الخامس عشر من ديسمبر 2019م