سنبلة قمح من المدينة ( قصة قصيرة ):

مشرقةٌ كشمسِ الصَّباح، نديّة كأزهار الرَّبيع، فتيَّة كظبيةِ الجرود.
الأحلام تكحّل أجفانها، والفرح يتطايرُ من محيَّاها كتضوع العطر.
اسمها أخذَ من الرفّعة قسطاً فكانَ ( علياء )
عندما تنهض تخالها نخلة تعانق السَّماء .
وقعت في غرامِ شابٍ قروي وهي لم تدرك قبلاً معنى قرية، ضجيج حبّها ملأ قلبها فكانت لأجله على استعداد أن تقطن الصحراء ولا تبالي، كانت ضيعة حبيبها نائية منسية، بردها يجمد الأوصال في الشتاء، وفي الصيف يقضون أوقاتهم في الحصاد حتى يغدو الجميع أسمر اللون بلا استثناء …
منذ الأسبوع الأول من زواجها راح حجم المصيبة يظهر لها من قسوة في الطبيعة، وفظاظة ألفاظهم وخشونة يدي زوجها ونظراته كما لو أنه شخص مختلف تماما عن الذي صادفته في الكلية .
حملت بعد شهرين تقريباً من زواجها وبدأت المأساة تكبر إلى أن التهمت جميع أحلامها، وكذلك أملها بالانسحاب من هذا الزواج .
لوحت الشمس نعومة وجنتيها و بدأت تفقد شيئا فشيئا ذاتها .
ولأجل الحياة الجديدة التي تقبع بداخلها استجلبت خيوط السعادة من عالم الأوهام فأينع الصبر بقلبها، أجبرها زوجها على ارتداء زي القرية لكي لا ينتقده الأقارب و يستغلون فرصة زواجه من فتاة مدنية فيغمزون ويلمزون عليه.

فلم ترفض وبدأت علياء تتبدل من فتاة المدينة الرقيقة اللطيفة الحالمة، إلى بنت ريفية بملابس تقليدية، ليس هناك أي متسع للأحلام في عالمها الجديد .

حلم واحد بقيَ لها وهو قدوم طفلها …
تعلَّمت الحصاد، وقطف الثمار، وقطف الأعشاب الضارة من بين المزروعات .
راحت الخشونة تغزو قدميها ويديها كما لو أنَّ
الطَّبيعة توسمها بطابع الريف فلا تليق النّعومة ببنات القرى.
خشيت على جلد طفلها من تلك الخشونة؛ فقررت أن تتحدى قسوة الظروف وراحت ترتدي القفازات القطنية، والجوارب، وتضع المطريات على بشرتها وفي تلك الأثناء تقول في نفسها
لن تغلبني طبيعة صماء، وأنا ذات العقل الراجح والقلب النابض .
وعند الحصاد راحت ترتدي قبّعة القش لتحمي وجهها الجميل من حروق الشمس .
أصبحت تكلّم أزهارَ الحقول، وتدلّل قطَّة المنزل
التي تعلقت بها كثيراً فصارت لا تُفارقها أبداً وتجري خلفها أينما ذهبت.
سحرت عيونها فتنة الطبيعة، وراحت تتأمَّل تعاقبَ الفُصول على الأشجار، وكيفَ تُغيّر حُلَلها في كلّ فصل.
هي الآن مستعدة لاستقبال فرحها المخبأ لها في داخلها، بعد أن اكتسبت القوة والجمال وروعة الفؤاد من جمال البساتين.

وُلد طِفلها وكان بملامح قرويّة قويّة سَرَّها ذلك كثيراً، حضنته وفاضت دموع الفرح من عينيها
وهمست له في أذنه: ( لأجعلنَّ منكَ رجلاً صلباً بقوّة أهلِ الرّيف ورقةِ ولُطف سكَّان المدن)، تلألأَ بريق الأمل في عينيها، ردَّدت بصوتٍ يملؤه الفرح: ( تركيبةٌ مُذهلة أنتَ يا صغيري)
راحَ طفلها يكبر ويترعرع بين ذراعيها وسطَ قساوة الظُّروف وقلبٍ مليءٍ بالحبّ والعطف.
كانت علياء كمِئذنةٍ في جامع، أو كصليب كنيسة شامخة مترفّعة تنظرُ من أعلى إلى جمال قريتها الجديدة، تفرح تتأثَّرَ بضرٍ أو سوء.

عائشة أحمد البراقي

حقوق النشر وجميع الحقوق محفوظة لموقع علمني